ليدا زيدان –
يُعدّ التلوث السمعي أحد أشكال التلوث البيئي غير المرئي، إلا أنه يُحدث تأثيراً كبيراً على حياة الإنسان، ومن أبرز أسبابه الضوضاء المرتفعة مثل أصوات السيارات والآلات والمصانع ومكبرات الصوت، عندما تتجاوز الحد الطبيعي لقدرة الإنسان على احتمالها، ومع تسارع وتيرة الحياة الصناعية والتكنولوجية الحديثة يزداد تأثير هذا التلوث، ويتسلل إلى حياة الإنسان ويحدث اضطراباً خفياً حيث يؤثر بشكل سلبي على الحالة النفسية ويزيد من التوتر والقلق، ومن الممكن أن يؤدي لاضطرابات النوم ومشاكل في التركيز بالإضافة لأزمات صحية.
يبرز التحدي الأكبر أن هذا النوع من التلوث لا يمكن ملاحظته ولا يلقى الاهتمام الكافي لمعالجته والحد منه، لذلك من الضروري فهم أسبابه والبحث عن حلول له لتحسين جودة حياة الإنسان وتفادي زيادة مخاطره.
ما هو التلوث السمعي
يُعرف التلوث السمعي أو “الضوضاء البيئية” بأنه التغيّر المستمر في شدّة الموجات الصوتية وتجاوزها المعدل المقبول لقدرة الأذن على التقاطها، وتُعتبر “الضوضاء” أصوات مزعجة أو مرتفعة في البيئة المحيطة، تتجاوز الحد الطبيعي لقدرة الإنسان على التحمّل، وتسبب توتراً أو إزعاجاً، وفي بعض الأحيان أذىً جسدياً، وينتج عنها أضرار أكبر مما نعتقد، فهي لا تسبّب تلوّث الماء أو الهواء، بل تلوّث الحواس وتؤثر على الجهاز العصبي ما يترك أثراً على صحة الإنسان النفسية والجسدية.
تقسم الضوضاء إلى نوعين، أولهما طبيعي مثل البراكين والزلازل والرياح والرعد خلال فصل الشتاء، والثاني ضوضاء غير طبيعية “بشرية” مثل أصوات وسائل النقل والسكك الحديدة والطائرات وضوضاء العمل من معامل ومصانع، وضوضاء اجتماعية مثل الأنشطة المنزلية والآلات الكهربائية المستخدمة داخل المنزل.
تقاس الضوضاء بوحدة “الديسبيل” (dB) ويعتبر الصوت الذي يتجاوز 85 ديسبيل مضراً خاصة في حال التعرض له لفترات طويلة، بينما تعتبر الأصوات الأقل من 50 ديسيبل آمنة إذ أنها لا تؤثر على الصحة العصبية والنفسية، أما الأصوات بين 55 و70 ديسيبل مثل حركة المرور العادية فإنها تبدأ بالتأثير على الراحة النفسية والتركيز في حال استمر التعرض لها لفترات طويلة، فيما يبلغ صوت الطائرة النفاثة 150 ديسيبل وهو ما يؤثر بشكل كبير على السمع، هذا وتختلف ردة فعل الأنسان على هذه الأصوات تبعاً لعوامل عديدة مثل نوع الصوت وتردده وحدته وفترة بقاء الصوت وطبيعة الإنسان وجملته العصبية، وتنتقل الأصوات على شكل موجات في جميع الاتجاهات، ولا يتوقف لتأثيرها على الأنسان بل تؤثر أيضاً على البيئة بما في ذلك الحيوانات والنباتات.
تأثير الضوضاء على البيئة
تعتمد العديد من الحيوانات مثل الطيور والذئاب على الأصوات، للتزاوج أو التحذير من الخطر أو تحديد مواقع بعضها البعض، وتؤثر الضوضاء على ذلك، حيث تغطي على أصوات الحيوانات ويصبح من الصعب التواصل بينها، إذ تعتمد معظم الحيوانات في مواسم التكاثر على التواصل عبر إصدار أصوات منخفضة و تضطر لرفع صوتها بسبب الضجيج يؤثر على عملية جذب الجنس الآخر، الحيتان والدلافين كذلك الأمر فهي تستخدم الموجات الصوتية للتنقل والتواصل وتؤثر الضوضاء التي تسببها السفن على قدرتها في تحديد اتجاهها، كما تعيش بعض الحيوانات الليلة في بيئة ذات إضاءة منخفضة ولذلك تعتمد على الأصوات في حياتها وتؤدي الضوضاء إلى تقليل فاعلية الموجات الصوتية وبالتالي عدم قدرة هذه الحيوانات على العيش بشكل طبيعي.
وكما البشر تصاب الحيوانات بالتوتر وتصبح ذات سلوك عدواني، كما يمنعها الضجيج من النوم، وقد يؤدي إلى تغيير مسارات الهجرة لبعض الطيور كما تتوقف بعض الأنواع الحيوانية عن التكاثر نتيجة ذلك، النباتات بدورها بالتلوث السمعي والأصوات العالية ما يؤدي إلى انخفاض كثافة الغطاء البيئي والتنوع البيولوجي، ويعود ذلك إلى تغير سلوك الحيوانات الناقلة للبذور، بالإضافة لتأثير التلوث السمعي على تركيبة التربة ودرجة الحرارة والرطوبة والتي تعتبر عوامل أساسية لنمو النباتات.
تأثير الضوضاء على الإنسان
يؤدّي التعرض المستمرّ للتلوث المسعي إلى آثار سلبية تنعكس على حياة الإنسان تتمثل بمشاكل في السمع وارتفاع ضغط الدم واضطرابات النوم، بالإضافة للتأثيرات النفسية مثل التوتر والقلق وصعوبة التفكير وقلة التركيز والانزعاج والعصبية، كما انه وبحسب بعض الدراسات يسبب ضعفاً في المناعة خاصة لدى الأطفال ويؤثر على النمو الفكري لديهم ويبطئ نمو الذاكرة بنسبة 23% ويسبب تراجعاً بالانتباه بنسبة 5% سنوياً وقد يؤدي إلى ضعف في التذكر المتسلسل بسبب عدم قدرتهم على تجاهل أصوات الضجيج، إذ يؤدي التعرض للضوضاء لمدة ثانية واحدة إلى ضعف في التركيز لمدة 30 ثانية، وبحسب إحدى الدراسات التي قامت بها الأمم المتحدة فإن المشاكل النفسية التي يسببها التلوث السمعي قد تؤدي إلى مشاكل جسدية خطيرة، حيث بينت الدراسة أن أمراض القلب والأوعية الدموية ارتفعت بنسبة من 0.17% إلى 0.66% لكل زيادة في الضوضاء قدرت ب 1 ديسيبل.
كما أجريت دراسة على طلاب يتعرضون للضوضاء أثناء حصصهم الدرسية وتبين أنهم يصابون بالممل والإرهاق ويحتاجون لوقت أطول لحل المسائل الحسابية. وتؤثر الضوضاء على الخلايا العصبية في المخ فتسبب تهيجاً فيها مما يؤثر على الدورة الدموية للقلب، وأفادت دراسة قام بها بعض العلماء أن الصوت حين وصوله إلى الدماغ يقوم بتنشيط منطقتين القشرة السمعية التي تفسر الضوضاء، واللوزة الدماغية المسؤولة عن الاستجابة الانفعالية للضوضاء، وفي حال ارتفعت الضوضاء تتم إثارة اللوزة الدماغية بشكل أكبر وتسبب استجابة المواجهة أو الهروب والتي تجعل الإنسان في حالة توتر وقلق.
منظمة الصحة العالمية أصدرت مجموعة من التوصيات حول الضوضاء في بيئات مختلفة، أهمها أن لا تتجاوز شدة الأصوات حدوداً معينة وخاصة في المناطق السكنية حيث يجب أن لا تتجاوز 53 ديسيبل خلال النهار و45 ديسيبل خلال الليل، وبحسب تقرير للمنظمة نُشر عام 2018 فإن حركة المرور في بلدان غرب أوروبا تؤدي إلى انخفاض عدد السنوات التي من الممكن أن يعيشها الأفراد هناك، واعتمدت المنظمة في دراستها على حالات الوفاة المبكرة بسبب التعرض للضوضاء أو الإعاقات والأمراض الناتجة عن ذلك، وفي دراسة أخرى أصدرتها المنظمة في يوم السمع العالمي عام 2022 ضمن مبادرة ( إجعل الاستماع مأموناً) حددت المنظمة معياراً جديداً لمايسمى “بالاستماع المأمون” في الأماكن والفعاليات وخلصت الدراسة إلى ست توصيات للحد من خطر فقدان السمع لدى الأشخاص من عمر 12 – 35 بسبب الموسيقى الصاخبة في الفعاليات الموسيقية، وتتضمن التوصيات ألا يتجاوز الصوت 100 ديسيبل، وينبغي أن يقوم الموظفين برصد مستويات الصوت، وتحسين أنظمة الصوت لتحقيق استماع مأمون، وحماية قدرات السمع الشخصية للجماهير، بالإضافة لإتاحة مناطق هادئة من أجل إراحة الأذن، وتدريب الموظفين وتوفير المعلومات لهم عن ذلك.
كما أن بعض الدراسات أشارت إلى انخفاض كفاءة العاملين الذين يتعرضون للضوضاء، بالإضافة لنقص عمر الإنسان من 8 – 10 سنوات في المدن الكبيرة والمزدحمة بسبب الضوضاء، ويزداد الضرر بزيادة فترة التعرض للصوت وزيادة شدة الصوت، وقرب المصدر الصوتي من الإنسان.
كيف يمكننا الحد من التلوث السمعي
لمعالجة مشكلة التلوث السمعي نحتاج إلى تنسيق بين الأفراد والمنظمات والسياسات الحكومية، عبر نشر الوعي بالأضرار المترتبة عن هذا النمط من التلوث، واتخاذ بعض الإجراءات العملية التي تحد من تأثيره، وتقويم السلوكيات التي تؤدي إلى ضوضاء مضرة، ومن الممكن اتباع بعض التحسينات لخفض الضوضاء والتعرض لها مثل إنشاء مساحات هادئة ضمن المدن كالحدائق والمنتزهات، بالإضافة لمحاولة عزل المدارس والمستشفيات والمباني السكنية عن طريق استخدام مواد عازلة للصوت أثناء البناء.
كذلك يمكن للحكومات أن تنظم عمل المصانع من خلال تحديد أوقات معينة لها، وتخصيص مساحات لهذه المصانع بعيدة عن المباني السكنية، وبناء الطرقات بمواد تخفف من صوت عجلات السيارات، وزيادة كفاءة الآلات والمركبات والطرق بحيث تصبح أقل ضجيجاً، ومنع استخدام الآلات المسببة للضوضاء في ساعات الليل والصباح الباكر، واستخدام الآلات ذات صوت منخفض أو محاولة تطويرها لتصبح أقل إزعاجاً، كما تفيد عملية زراعة الأشجار على جوانب الطرقات للفصل بين ضوضاء الشوارع والمباني السكنية.