كم من معاركَ شنَّ الفنُ غارتَها
على الفرات ولكنْ كانَ ينتصر
نَموذَجٌ للأنانيينَ ليس له ولا عليه
أفازَ الناسُ أم خسِروا
من قصيدة “الفرات الطاغي” للشاعر محمد مهدي الجواهري
ينبع من جبال طوروس في تركيا، ويدخل سوريا بالقرب من مدينة جرابلس ليشكّل خطاً فاصل بين الشرق والغرب، مثلما كان حداً فاصلاً منذ أيام آشور وبابل وحتى أيام الإدارة الذاتية الكردية من الجهة الشرقية والقوات التركية والفصائل الموالية لها من الجهة الغربية، حتى يخرج من سوريا بالقرب من مدينة البوكمال، داخلاً العراق، مكملًا سيره حتى شط العرب، ليلتقي بأخيه دجلة ويصيران واحداً.
“هذا عذبٌ فراتٌ” وهذه اتفاقيات
نهر الفرات هو أطول أنهار سوريا وأكثرها غزارة. يعيش على ضفافه وبفضله ملايين من السوريين والسوريات، وبفضل مائه صارت الجزيرة الفراتية سلّة سوريا الغذائية.
لكن المعارك التي تندلع على أطرافها، لا سيما المعارك التي اندلعت في الشهور الأخيرة بعد سقوط نظام الأسد بالقرب من سد تشرين، حولّت ماء الفرات العذب إلى حمم ناريّة تنزل فوق رؤوس أهل المنطقة.
في معارك أخرى صار ماء النهر يستعمل سلاحًا، مثلما فعلت تركيا في العام 2021 حين قلّصت من نصيب سوريا من المياه، مما أدى إلى انخفاض غير مسبوق في منسوب مياه النهر، وهدّد بكارثة بشريّة وبيئية هائلة.
اتفاقيات كثيرة وُقّعت بين سوريا والعراق وتركيا فيما يخص ماء النهر المخصّص لكل بلد. مثلًا في العام 1987 وقعت تركيا اتفاقاً مبرماً مع سوريا والعراق يقضي بضخ 500 متر مكعب في الثانية إلى الأراضي السورية على أن يصل 60% منها إلى العراق.
قبلها، وبالتحديد في سنة 1946، وُقعت اتفاقية بين العراق وتركيا، تبعتها بروتوكولات عديدة في سنوات مختلفة مع حكومات مختلفة، لتنظّم قواعد الانتفاع من مياه نهري دجلة والفرات.

في العام الماضي، نيسان 2024، عادت العراق وتركيا لتوقيع اتفاقية جديدة من أجل “تطوير سبل التفاهم والتعاون في قطاع المياه، على مبدأ المساواة والنوايا الحسنة وحسن الجوار”. جاء التوقيع بعد محادثات بين حكومة العراق ونظام الأسد البائد في آذار من العام نفسه، حول انخفاض نسبة تدفق ماء الفرات إلى العراق، مما نتج عنه انخفاض في منسوب النهر في العراق، الذي أدى إلى تضرّر في الأراضي الزراعيّة العراقيّة.
بحسب صحيفة العربي الجديد، التي نشرت في آذار 2024 تقريراً عن المباحثات العراقية السوريّة، فإنّ مياه الفرات في سوريا قد وصلت إلى “حالة غير مسبوقة من الجفاف”، وأنّ مستوى المياه في سدّي الفرات وتشرين المقامان على نهر الفرات، قد اقترب من “المستوى الميت”، وذلك بسبب “تراجع مستوى الزراعة” و”زيادة نسب الملوحة والتلوث في مياه النهر”.
في أيلول من العام نفسه توقّع وزير الموارد المائية العراقي عون ذياب استمرارًا في تناقص المياه الواردة إلى نهر الفرات إلى حوالي الثلث بحلول العام 2035.
أمّا مؤخرًا فقد كشفت لجنة الزراعة والمياه النيابية في شهر شباط الجاري عن إجراء مفاوضات مع الحكومة السوريّة الجديدة حول الحصص المائية لنهر الفرات.

“وأسقيناكم ماءً فراتاً”
يعاني مئات الآلاف من البشر الذين يعيشون على ضفتي الفرات من المعارك الدائمة، ومن خسارة بنيتهم التحتية، ففضلاً عن تدمير المدن، وقتل الناس وتهجيرها، دُمرت كلّ الجسور المبنية فوق النهر. مثلاً صار الناس في مدينة دير الزور يتنقلون بين ضفتي النهر عبر عبّارات وقوارب تفتقر لأدنى مقومات السلامة.
إضافة إلى كل تأثيرات المعارك، واستعمال المياه كسلاح من قبل بعض الأطراف، لم تتوقف موجات الجفاف التي ضربت الجزيرة الفراتية منذ عام 2000. وازداد الأمر سوءًا في السنوات الأخيرة، بسبب المعارك من جهة، وبسبب غياب أي مشاريع حقيقيّة تساعد في الحفاظ على الفرات.

هذا الجفاف، وقلّة الدعم هذه، تهّدد مستقبل الزراعة في حوض الفرات، خاصة في هذه السنة، حيث توقفت المعارك في كلّ سوريا بعد سقوط النظام، باستثناء بعض المعارك بين قوات مدعومة تركية وقوات كردية، على حدود نهر الفرات، وحيث شهدت سوريا بشكل عام والجزيرة بشكل خاص تأخر في الهطولات المطرية لفصل شتاء 2025، مما يؤدي إلى تدهور القطاع الزراعي وتربية الماشية في المستقبل بشكل أكبر مما هي عليه اليوم.
الصورة المرافقة لهذا التقرير من تصوير رؤى النايف.