من السوريات والسوريين إلى العالم “المُتحضّر”.. هذه تحيّة بيئيّة!

شهدت سوريا خلال الحرب مجموعة من التغييرات التي دفعت الناس إلى تطوير أساليب جديدة للحياة والتكيّف مع واقعهم الجديد، أبرزها التحديات الاقتصاديّة والمعيشيّة التي ساهمت في خلق عادات جديدة أو إعادة إحياء عادات قديمة، قد تكون فُرضت قسراً على السوريين/ات، لكنها، وعلى بساطتها، تشكّل جزءاً كبيراً من العادات البيئية التي تسعى الدول المتقدمة إلى اعتمادها حفاظاً على البيئة.

تُعدّ صناعة الصابون الطبيعيّ أحد أشهر الصناعات في سوريا، وهي جزء من التراث المحلّي للبلاد، لكنها غالية الثمن مقارنة بالصابون الكيميائي الذي ينتشر في الأسواق، دفع هذا الأمر بعض المنازل في سوريا إلى استخدام القليل من زيت الزيتون أو الزيت المر لإنتاج الصابون بشكل منزليّ للاستخدام الشخصيّ، أو بيعه بكميات في الأسواق. تقول الكيميائية ضحى الجرعتلي (34 عاماً) عن سبب إعادة صناعة الصابون في المنزل من قبل السوريين: “الحالة الاقتصاديّة أحد أهم الأسباب التي دفعت الناس لإعادة تصنيع الصابون الطبيعيّ، كصناعة صابون الغار حيث يستخدم الناس زيتاً من أراضيهم، فلا يشترون المادة من السوق بل هي موجودة لديهم”.

تضيف الجرعتلي التي تصنع الصابون في منزلها عن طريق تجميع كميات من الزيت: “بيدون واحد من الزيت يُنتج كمية وفيرة من الصابون، بالإضافة إلى عدم استخدام مواد كيميائية بكميات كبيرة، فيتم استخدام كمية معتدلة جداً من هيدروكسيد الصوديوم، كما أنه لا يحتاج إلى مواد حافظة مما يجعل الإنتاج صديقاً للبيئة”.

لا يتوقف الأمر عند صناعة الصابون بل يصل إلى إعادة استخدامه، تقول الجرعتلي: “بالنسبة لقطع الصابون الصغيرة المُتبقيّة، يتم تذويبها واعادة صبها مجدداً، أو يتم استخدامها عن طريق برشها ووضعها بين الملابس الشتوية والسجاد لأنها تساعد على طرد الرطوبة والتعفن، كما أنها طاردة للحشرات بسبب الرائحة العطرية”.

من جهة اُخرى تستخدم الجرعتلي طريقة التجفيف باستخدام أشعة الشمس لحفظ المواد الغذائية ( المونة) دون الحاجة إلى استخدام الغاز أو الحطب أو حفظها في الثلاجة بسبب الساعات الطويلة للتقنين الكهربائي، تقول عن تجربة تجفيف المشمش بدلاً من صناعة المربى: “لا يحتاج الإنسان في هذه الحالة إلا إلى أشعة الشمس والفاكهة التي يريد تجفيفها سواء أكانت المشمش أو العنب لصناعة الزبيب أو التين، حيث تبقى بحالة جيّدة ولفترة طويلة”، وتكمل لمجلة لحلاح: “هذه الصناعة قديمة في سوريا، حيث تشتهر معظم الأرياف بصناعة المجففات ومختلف أنواع المربى، وعلى الرغم من انتشارها العالميّ اليوم بسبب “الترند” المُتعلّق بالصحة، إلا أن تفاقم أزمة المحروقات وتراجع الحالة الاقتصاديّة جعل الناس في سوريا أكثر ميلاً للتجفيف، حيث يستخدمون ما يتوّفر في أراضيهم من مواد”.

إعادة تدوير القماش عادة قديمة في المجتمع السوريّ، فقد جرت العادة أن تُجمع الملابس القديمة ليُصنع منها بسط مُلّونة. تقول الخياطة سيلفا بيطار (51 عاماً) لمجلة لحلاح عن إعادة إحياء هذه العادة: “قديماً كان الناس يصنعون البسط من الألبسة القديمة التي لم تعد صالحة للاستخدام، ليتم استخدامها لاحقاً في منازلهم، لكن هذه الظاهرة قّلت في السنوات الأخيرة لعدم وجود أجيال مُهتمة بهذه المهنة، وسرعة الحياة التي تدفعهم إلى رمي كل ما هو قديم”. تكمل: “لكن؛ اليوم تُعيد بعض السيدات استخدام الملابس القديمة لصناعة مدّات توضع على أبواب المنازل وداخلها بطريقة تشبه الصناعة القديمة للبساط لكن بحجم أصغر”.

ترى بيطار أن الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة القاسية أجبرت العائلة على استخدام الملابس نفسها لأكثر من طفل من أطفالهم بعد أن يتغيّر مقاسها، تقول: “يستمر الأمر بعدها باستثمار الملابس لخلق قطعٍ جديدة عن طريق إعادة خياطتها بشكل جديد ومواكب للحداثة مثل حقائب الجينز، أو تجميعها كقطع ملونة مختلفة وصناعة شراشف جديدة للأثاث المنزليّ.” 

تضيف بيطار أن الأمر لا يقتصر على القديم من الملابس، حيث استثمرت النساء السوريات وجود “بطانية المعونة” ذات اللون الرماديّ والتي تحمل غالباً شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ليصنعن منها أزياءً تحمي أولادهن من برد الشتاء: “بسبب قلّة وسائل التدفئة حوّلت السيدات باستخدام آلات الخياطة المتواضعة هذه البطانية إلى جاكيت أو بيجاما، كما تم استخدامها كوجه إضافيّ للحاف حيث يصبح بهذه الطريقة مصدراً جيداً للدفء”.

يدعم بعض الناشطين البيئيين تخفيف استهلاك اللحوم كأحد الإجراءات التي تساعد في الحدّ من أزمة المناخ، كما شارك برنامج الأمم المتحدة للبيئة قائمة بالبدائل الجديدة لمنتجات اللحوم والألبان التي يمكن أن تساعد في الحدّ من الانبعاثات الضارة بالمناخ، وعلى الجهة المقابلة من العالم تعيش سميرة (اسم مستعار-38 عاماً) مع أطفالها الثلاثة التي تسعى لتأمين غذاء صحيّ ومتوازن لهم، من خلال تأمين مصادر جيّدة للبروتين في ظل ارتفاع أسعار اللحوم والأحوال المعيشيّة السيئة، تقول لمجلة لحلاح: “البروتين مهم جداً لأطفالي، خصوصاً أنهم في مرحلة النمو، لكن شراء لحم الخروف أو العجل أمر صعب، ليس فقط بسبب سعره، بل لأنه يحتاج إلى طهي بشكل جيّد، والغاز المنزليّ إما غير متوّفر أو أسعاره مرتفعة جداً، كما أنني لا أملك طنجرة ضغط لأتمكن من طهي اللحم بشكل جيّد وسريع”.

تحاول سميرة التكيّف مع الظروف القاسية وإيجاد بعض الحلول التي قد تكون متاحة في بعض الأوقات، تقول: “وجدت أن استخدام اللحم المفروم، سواء الأحمر أو الأبيض، هو حل عمليّ، حيث أشتري كمية قليلة وأستخدمها في أكثر من طبق مثل الأرز، أو المعكرونة، أو حتى مع الخضروات، أتحكم بالكمية جيداً، وأحياناً أستغني عنها، لكن أعوّض بالتوابل، بهذه الطريقة أتمكن من تقديم وجبات شهيّة ومتوازنة لأولادي دون أن أرهق ميزانية المنزل”.

في نفس المدينة تقيم روضة (29 عاماً) وهي نازحة إلى القامشلي مع أطفالها الخمسة في بيت صغير على أطراف المدينة، حيث أرهقها البحث عن مصدر جيّد للخضروات وبسعر يناسب الحالة المعيشيّة، خصوصاً بعد أن عثّرت الحرب استكمالها لتحصيلها العلّمي بعد أن حصلت على شهادة البكالوريا من المدرسة الزراعيّة، تتحدث لمجلة لحلاح عن حبها للزراعة: “مع مرور الوقت، اكتشفت أنني أمتلك موهبة في الزراعة، حيث بدأت باستخدام صناديق بلاستيكية وفلّينية، وزرعت فيها البقدونس والنعناع والباذنجان، واستخدمت قشور البيض وبعض بقايا الطعام كأسمدة طبيعية، واعتمدت على مياه الغسيل أو مياه الأمطار عند توفرها.”

تكمل عن تجربتها: “أصبحت الزراعة بالنسبة لي أكثر من مجرد وسيلة للتوفير، بل طريقة للحفاظ على هويتي الريفية التي هجرتها قسراً، كما أنها وسيلة لغرس القيم لدى أولادي، صحيح أن ما أزرعه لا يكفي حاجتنا بالكامل، لكنه يمنحني شعوراً بالكرامة والرضا، وأحياناً أتمكن من تبادل الخضروات مع الجيران أو مشاركتها مع من يحتاج.”

انتشر العمل عن بُعد بشكل كبير بعد الحجر الصحيّ الذي فرضته دول العالم بسبب انتشار جائحة كوفد-19 مما منح عدد كبير من العاملين لتجربة هذا النوع من العمل، واكتشاف أهميته البيئية من خلال تخفيف التنقل باستخدام المواصلات وتخفيف استهلاك الموارد بشكل يوميّ في شركات العمل، من جهة اُخرى لجأ العديد من السوريين/ات إلى العمل عن بُعد بسبب عدم توفر فرص عمل جيدة داخل سوريا، تقول آنا آغوب( 30 عاماً)  وهي مشرفة مبيعات تعمل في أحد الشركات الإماراتية عن بُعد: “معظم الشباب يرغبون اليوم بهذا النوع من العمل خصوصاً بعد جائحة كوفد-19 عام 2019، حيث كانت التجربة الأولى لمعظم الناس في هذه الفترة، وبعد التجربة اكتشفوا أن هذا النوع يوّفر قدر أكبر من الراحة وضغط أقل من ناحية الالتزام بمكان العمل.”

أما عن أسباب توجه الشباب السوريّ لهذا النوع من العمل تقول: “السبب كان الرواتب الجيّدة، لأن الشركات الأولى التي عرضت فرصها كانت أجنبية، كما أن الوضع الأمنيّ وتوفير مصروف المواصلات، ووجود فرصة بأن يعمل الأشخاص ضمن اختصاصاتهم دون الاضطرار إلى السفر تُعد من الأسباب الهامة أيضاً، بالنسبة لي كان السبب اقتصادياً، وأرى أن أغلب الناس في سوريا كانت أسبابهم اقتصادية”.

يتحدث مؤسس فريق الدراجات الهوائية في محردة حبيب يعقوب (57 عاماً) عن بداية استخدامه للدراجة الهوائية والسبب وراء ذلك: “بدأ الأمر عام 2014 بسبب عدم توّفر المحروقات، وما يتبع هذا الأمر من ساعات طويلة من الانتظار في محطات الوقود، وبسبب ضيق الوقت، واضطراري إلى التنقل الدائم، فكرّت أنني أملك دراجة هوائية فلماذا لا أستخدمها، لم يكن قراراً سهلاً في بداية الأمر لكن مع مرور بعض لوقت اتخذت قراراً باعتمادها كوسيلة نقل”.

يكمل عن تجربته لمجلة لحلاح: “اكتشفت لاحقاً أنها وسيلة جيدة جداً بالنسبة لي من الناحية الحركية والصحية، كما أنها وسيلة تمنحني حرية الحركة والتنقل بسهولة”.

أما عن تحوّل مبادرته الفرديّة إلى فريق يقول: “تطور الأمر إلى مجموعة من الشبان والشابات، زاد الاهتمام عند الناس بعد أن أصبحت الأنشطة أكثر تنظيماً، وبعد تأسيس صفحة على موقع فيسبوك كان الحديث عن أهمية الدراجة الهوائية أحد أولوياتنا.”

يرى يعقوب أن أسباب استخدام الدراجة الهوائية مختلفة بين الناس، يقول “قسم من الناس اعتبر الدراجة وسيلة نقل، القسم الآخر يرى أنها وسيلة اقتصادية تساعد في ترشيد استهلاك المحروقات في ظل الأزمة التي شهدتها البلاد، كما اعتبره بعض الناس رياضة حركية، ريما يحمل بعض الدراجين غايات بيئية، لكنها ليست السبب الرئيسيّ وراء استخدام الدراجة.” 

يختم حبيب يعقوب حديثه لمجلة لحلاح بالتعبير عن أهمية الدراجة الهوائية بالنسبة له: “تحوّلت الدراجة الهوائية إلى سلوك وأسلوب حياة بالنسبة لي، تأكدت من هذا الأمر بعد أن أصبح بإمكاني الحصول على المحروقات بسهولة، لكن الدراجة الهوائية أصبحت جزءاً من حياتي.”

Scroll to Top