دلير يوسف –
ماذا يمكن أن يقول المرء عن بلادنا وهي تعيش في تحولات و”منعطفات تاريخية” لا تنتهي؟ كيف يمكن شرح ما يحدث في هذه البلاد والتحولات السياسية والبيئية والاجتماعية التي تحدث فيها في مقال مختصر؟ كيف يمكن لنا أن نكتب مقدّمة مقالة تحكي عن العلاقة المتبادلة بين القضايا البيئية والقضايا السياسية في سوريا ودول غرب آسيا بشكل عام، والتي تقع في قلب واحدة من أخطر الأزمات المناخية في العالم؟ هل نحكي عن الصراعات السياسية والاقتصادية المعقّدة أم عن الحرب النووية التي تلوح في الأفق وتأثير ذلك على البيئة؟ هل نحكي عن ندرة المياه وتدهور الأراضي الزراعية والاعتماد المفرط على الوقود الأحفوري كأمثلة عن كوارثنا البيئية؟ هل نحكي عن استعمال المياه كأداة حرب وأداة ابتزاز؟
قد تكون العلاقة بين القضايا البيئية والسياسية في منطقتنا أكثر تعقيداً وتشابكاً من أي وقت سابق، وفهم هذه العلاقة لا يقتصر فقط على تحليل السياسات البيئية (إن وُجدت) فحسب، بل يتطلب أيضًا النظر في كيفية استخدام الموارد البيئية كأدوات نفوذ، وكيف يشكّل التغير المناخي تهديداً محتملاً للاستقرار في منطقة تعاني أصلاً من هشاشة سياسية وأمنية. في هذا السياق، ربّما يصبح من الضروري تسليط الضوء على دور البيئة في صنع القرار السياسي، وعلى إمكانيات التعاون الإقليمي لمواجهة تحديات مستقبلية تتجاوز الحدود السياسية المصطنعة، بدلاً من الحروب مثلاً.
البيئة سياسياً وأمنياً
لم تعد القضايا البيئية قضايا هامشية في النقاشات السياسية والأمنية، بل عنصرًا حيويًا يؤثر على استقرار الدول وشكل العلاقات الإقليمية والدوليّة، ولها دور محوري في النزاعات الإقليميّة. لنا في استخدام تركيا للسدود التي أقامتها على نهري دجلة والفرات وتأثير ذلك على سوريا والعراق خير مثال.
كذلك تتقاطع الأزمات البيئية مع النزاعات الجيوسياسية والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وإن كانت المياه والنفط قد شكّلت عبر العقود محفزات مباشرة أو غير مباشرة للصراعات، فإن السيطرة على مصادر المياه في الوقت الحالي قد أصبحت مسألة تتجاوز البعد التنموي وتحولت إلى تحد أمني كبير. يمكن في هذا المجال البحث عن سياسات إسرائيل في محاولاتها السيطرة على مصادر المياه العذبة طوال فترة وجودها.
كما أنّ التدهور البيئي من تصحّر وتراجع في جودة الأراضي الزراعية قد أدى إلى هجرات داخلية كبيرة في كلّ دول غرب ووسط آسيا، مما وضع (ويضع) ضغطًا متزايدًا على المدن، وهدّد (ويهدّد) الاستقرار السياسي والاجتماعي لعدّة عوامل لا نحب الخوض بها في مقال قصير.
التغير المناخي في غرب آسيا
لم يعد يخفى على أحد أنّ مناطق غرب آسيا والخليج العربي هي من أكثر مناطق العالم تأثرًا بتغير المناخ، فدرجات الحرارة التي ارتفعت لأرقام قياسية في السنوات الماضية في العراق والكويت بشكل خاص دليل مباشر على ذلك.
ارتفاع درجات الحرارة والتراجع المستمر في معدلات هطول الأمطار أثرت بشكل مباشر على الزراعة والأمن الغذائي، فضلًا عن الأمن المائي، مما أدى (ويؤدي) إلى أزمات اقتصادية، تطورت في بعض الحالات إلى توترات اجتماعيّة، وقد (ومن المتوقع أن) تزيد حدّة هذه التوترات في المستقبل بشكل يصعب احتواؤه في ظل هشاشة البنى السياسية في كثير من دول المنطقة، والتي لديها قدرات محدودة في التعامل مع هذه التحديات البيئية.
لذلك نعتقد أنّ دمج الاعتبارات البيئية ضمن السياسات الأمنية والخطط التنموية أصبح ضرورة لا خيارًا. ونعتقد أنّ على جميع دول المنطقة أن تبني استراتيجيات مستدامة تقوم على إدارة الموارد بشكل عادل لتعزيز قدرة المجتمعات على التكيف مع التغير المناخي، وأن تعمل على دعم المجتمعات الأكثر عرضة للضرر
البيئة كأداة دبلوماسية
على أنّه، ورغم كل هذه التحديات، يمكن للبيئة أن تكون أداة فعالة لبناء الثقة وتعزيز التعاون بين الدول المختلفة، حتى وإنّ كانوا أعداءًا، فمشاريع مثل “الطاقة الشمسية العابرة للحدود”، أو “إدارة الأحواض المائية المشتركة”، يمكن أن تشكل أرضية لحوار جديد قائم على المصالح المشتركة لا على الخلافات التاريخية.
كذلك يمكن أن تمثل مبادرات إقليمية مثل “مبادرة الشرق الأوسط الأخضر“، المبادرة السعودية التي أُطلقت في العام 2021، خطوة مهمة نحو تحقيق التعاون البيئي، وذلك من خلال زراعة الأشجار ورفع الغطاء النباتي وتقليل انبعاثات غازات الدفيئة ومواجهة التصحر الجماعي، وتدهور الأراضي الزراعية والحفاظ على الحياة البحرية.
هذه التحولات البيئية تفرض نفسها على الأجندات السياسية والأمنية في منطقتنا ليس فقط كأسباب للصراع، بل أيضاً كفرصة لبناء شراكات جديدة، وتطلع نحو مستقبل جديد. وبينما تبدو التحديات كبيرة ومُقلقة فإنّ التعامل معها بوعي وإرادة سياسية مشتركة قادرة على تجاوز الانقسامات والخلافات، قد يجعل من البيئة جسرًا للتفاهم الإقليمي بدلًا من أن تكون عنصرًا آخرًا في مشهد معقّد.
حين تهجم البيئة علينا ستبدو كلّ صراعاتنا وخلافاتنا وتاريخنا وإجرامنا شيئاً صغيراً لا يقارن بغضب الطبيعة.