إجابات حاسمة عن الأسئلة الكبرى
مادة مترجمة – جوليا روزين –
ترجمة – نور البرزاوي –
إنّ علم تغيُّر المناخ أكثر صلابة ويحظى بقبولٍ واسعٍ مما قد تتصوّره. ولكن امتداد هذا الموضوع، إلى جانب انتشار المعلومات المضلِّلة، قد يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال. لذلك، بذلنا أقصى جهدنا لنقدّم لك أدقّ المعلومات العلميّة الممكنة، إلى جانب شرحٍ لكيفيّة توصّلنا إلى هذه المعارف.
-1-
كيف نعرف أنَّ التغيُّر المناخي يحدث حقاً؟
غالباً ما يُنظر إلى التغيُّر المناخي على أنَّه توقُّع مستند إلى نماذج حاسوبية معقَّدة. ولكن الأساس العلمي لهذا التغيُّر أوسع بكثير، إذ لا تمثِّل النماذج سوى جزءٍ واحدٍ فقط من الصورة (وعلى أي حال، فإنها دقيقةٌ على نحوٍ مدهش).
لأكثر من قرنٍ من الزمن، فهم العلماء الأساسيات الفيزيائية وراء تسبُّب الغازات الدفيئة (Greenhouse gases) مثل ثاني أكسيد الكربون في تسخين سطح الأرض. وعلى الرغم من أنَّ هذه الغازات لا تمثِّل سوى نسبةٍ ضئيلةٍ من الغلاف الجوي، إلّا أنّها تفرض تحكُّماً خارجياً في مناخ الأرض؛ إذ تحتجز جزءاً من حرارة الكوكب قبل أن تتسرَّب إلى الفضاء. وهذه الظاهرة – ظاهرة البيت الزجاجي (The Greenhouse effect) – بالغة الأهمّية: فهي ما يسمح لكوكبٍ يبعد كلّ هذه المسافة عن الشمس بالاحتفاظ بالمياه السائلة والحياة!
ومع ذلك، خلال الثورة الصناعية، بدأ الناس بحرق الفحم وغيره من الوقود الأحفوري لتشغيل المصانع والمصاهر والمحركات البخارية، ما أضاف مزيداً من الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي. ومنذ ذلك الحين، أدّت الأنشطة البشريّة إلى رفع حرارة الكوكب.
نعلم صحّة ذلك بفضل وفرة الأدلة التي بدأت بقياسات درجات الحرارة المسجّلة في محطّات الأرصاد الجويّة وعلى متن السفن منذ منتصف القرن التاسع عشر. وفيما بعد، بدأ العلماء بتتبّع درجات حرارة سطح الأرض بواسطة الأقمار الصناعيّة، والبحث عن دلائل على التغيّر المناخي في السجلات الجيولوجية. وجميع هذه البيانات تقود إلى النتيجة ذاتها: الأرض آخذةٌ في الاحترار.
ارتفعت معدّلات درجات الحرارة العالميّة بواقع 2.2 درجة فهرنهايت (1.2 درجة مئويّة) منذ عام 1880، وحدثت أكبر التغيُّرات في أواخر القرن العشرين. لقد ازداد دفء المناطق البريّة أكثر من سطح البحر، بينما شهد القطب الشمالي أعلى معدَّل ارتفاع، إذ تجاوزت الزيادة فيه 4 درجات فهرنهايت منذ ستينيات القرن الماضي فقط. كذلك، حدثت تغيُّرات في درجات الحرارة القصوى؛ ففي الولايات المتّحدة، أصبح عدد الأرقام القياسيّة للحرارة المرتفعة المسجَّلة يومياً يفوق نظيره للحرارة المنخفضة بواقع اثنين إلى واحد.
إنَّ هذا الاحترار لا سابق له في التاريخ الجيولوجي القريب. ويوجد رسمٌ توضيحي شهير، نُشر للمرَّة الأولى عام 1998، ويُطلَق عليه عادةً “رسم عصا الهوكي”. يُظهر هذا الرسم كيف ظلَّت درجات الحرارة شبه مستقرة لقرونٍ (جزء العصا المستقيم) قبل أن ترتفع بحدة (جزء النصل). وقد استند في ذلك إلى بيانات مستمدة من حلقات الأشجار وعيِّنات الجليد اللبية ومؤشرات طبيعيّة أخرى. وتكشف الصورة الأساسيّة، التي صمدت أمام تدقيق علماء المناخ والمشكِّكين لعقود، أنَّ الأرض اليوم أشدّ حرارة مما كانت عليه منذ ألف عام على الأقل، بل وربما لفترات أطول بكثير.
وفي الواقع، تُخفي درجات الحرارة السطحيّة الحجم الحقيقي لتغيّر المناخ، لأنَّ المحيطات امتصَّت 90 في المئة من الحرارة المحتجزة بواسطة الغازات الدفيئة. وتُظهر القياسات التي جُمِعت على مدار الستة عقود الأخيرة في رحلات بحثيّةٍ محيطية وشبكاتٍ من الأجهزة العائمة، أنَّ كلَّ طبقةٍ من طبقات المحيط تشهد احتراراً. ووفقًا لإحدى الدراسات، فقد امتصّت المحيطات من الحرارة خلال الفترة ما بين عامي 1997 و2015 قدر ما امتصَّته خلال المئة وثلاثين عاماً السابقة لهذه المدة.
ونعلم أيضاً أنَّ تغيُّر المناخ يحدث لأنَّ آثاره ماثلةٌ في كلّ مكان. فالصفائح والأنهار الجليديّة تتقلَّص، في حين ترتفع مستويات سطح البحر. كما يتلاشى الجليد البحري في القطب الشمالي. وفي فصل الربيع، يذوب الثلج في وقتٍ مبكر وتُزهر النباتات باكراً. أمّا الحيوانات، فتنتقل إلى مناطق أعلى و إلى خطوط عرض أبعد طلباً لبرودةٍ أكثر. وفي الوقت ذاته، تزداد حالات الجفاف والفيضانات وحرائق الغابات تطرفاً. لقد تنبَّأت النماذج بالعديد من هذه التغيُّرات، لكنَّ الملاحظات تؤكّد أنَّها باتت تتحقَّق الآن.
-2-
ما مدى الاتفاق بين العلماء حول تغيُّر المناخ؟
لا شكَّ في أنَّ العلماء يحبّون النقاشات القديمة. لكن فيما يتعلَّق بتغيُّر المناخ، لا يكاد يوجد أي جدال: فقد أظهرت دراساتٌ عديدةٌ أنَّ أكثر من 90 بالمئة من العلماء الذين يدرسون مناخ الأرض متَّفقون على أنَّ الكوكب آخذٌ في الاحترار، وأن البشر هم السبب الرئيسي وراء ذلك. كما تؤيِّد معظم الهيئات العلميّة الكبرى، بدءًا من وكالة ناسا وصولاً إلى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، هذا الرأي. ويُعَدُّ هذا المستوى المذهل من الإجماع أمراً لافتاً للنظر؛ نظراً لطبيعة البحث العلمي التي تتسم بالمنافسة والاختلاف، حيث لا تزال أسئلةٌ مثل “ما الذي قضى على الديناصورات؟” موضع نزاعٍ محتدم.
بدأ هذا الإجماع العلمي حول تغيُّر المناخ يتبلور في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما طغى تأثير الاحتباس الحراري الناتج عن البشر على التقلبات المناخية الطبيعية. وبحلول عام 1991، صرَّح ثلثا علماء الأرض والغلاف الجوي الذين شاركوا في واحدة من أوائل دراسات الإجماع بأنَّهم يقبلون فكرة الاحتباس الحراري العالمي الذي تسببه الأنشطة البشرية. وفي عام 1995، خلصت الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيُّر المناخ – وهي جهةٌ معروفةٌ بتقييمها المتحفظ الذي يُجرى دوريّاً لحصر المعرفة العلمية المتاحة – إلى أنَّ “مجمل الأدلّة يشير إلى وجود تأثيرٍ ملموسٍ للإنسان على مناخ الأرض”. واليوم، يتَّفق أكثر من 97 بالمئة من علماء المناخ العاملين في مجال النشر العلمي على وجود تغيُّر المناخ وسببه (كما يتَّفق معهم نحو 60 بالمئة من عامة السكّان في الولايات المتّحدة).
من أين إذاً جاءت فكرة أنّ ثمّة نقاشًا قائمًا حول تغيُّر المناخ؟ يرجع قدرٌ كبيرٌ من ذلك إلى حملاتٍ إعلاميّةٍ منسّقة أطلقتها شركاتٌ وسياسيّون يعارضون التحرُّك المناخي. فقد روّج كثيرون لفكرةٍ مفادها أنَّ العلماء لم يحسموا رأيهم بعدُ بشأن تغيُّر المناخ، رغم أنَّ هذا كان مضلِّلًا. وقد أوضح فرانك لانتز، المستشار الجمهوري، الدافع وراء هذه الاستراتيجيّة في مذكرةٍ سيِّئة السمعة وجَّهها عام 2002 إلى مشرِّعين محافظين، إذ قال فيها: “إذا أدرك الجمهور أنَّ المسائل العلمية قد حُسمت، فسوف تتغيَّر آراؤهم بشأن الاحتباس الحراري بناءً على ذلك”. وما زال التشكيك في حالة الإجماع العلمي نقطة نقاشٍ متداولة إلى اليوم، كما باتت نسبة الـ97% عاملًا مُفجِّراً للجدل.
ولتعزيز الادّعاء الخاطئ بوجود شكٍّ علميٍّ مستمرّ، استشهد بعض الأفراد بمبادراتٍ مثل “مشروع عريضة الاحتباس الحراري”، الذي دعا حكومة الولايات المتحدة إلى رفض بروتوكول كيوتو لعام 1997، وهو من أوائل الاتفاقيات الدوليّة للمناخ. وقد زعمت العريضة أن تغيُّر المناخ غير موجود، وأنَّه حتى وإنْ كان موجوداً فلن يُلحق ضرراً بالبشرية. ومنذ عام 1998، وقّع عليها أكثر من 30 ألف شخصٍ يحملون شهاداتٍ علميّة، لكن نحو 90 بالمئة منهم درسوا تخصّصاتٍ بعيدة عن علوم الأرض أو الغلاف الجوي أو العلوم البيئيّة، وكان بين الموقّعين 39 عالماً فقط متخصصاً في علم المناخ. وكانت غالبيتهم مهندسين وأطباء وغيرهم من أصحاب التخصّصات التي لا تكاد تمتّ بصلةٍ تُذكر إلى فيزياء النظام المناخي.
ما يزال بعض الباحثين المعروفين يعارضون الإجماع العلمي. بعضهم، مثل ويلي سون، الباحث المنتسب إلى مركز هارفارد–سميثسونيان للفيزياء الفلكية، تجمعه صلات بصناعة الوقود الأحفوري. أما آخرون، فلا تربطهم صلات بتلك الصناعة، لكن ادّعاءاتهم لم تصمد أمام ثقل الأدلّة العلميّة. وعلى الأقل، تراجع عالمٌ بارزٌ متشكّكٌ واحد عن موقفه، وهو الفيزيائي ريتشارد مولر، بعد إعادة تقييمه للبيانات التاريخيّة عن درجات الحرارة، في إطار مشروع “بيركلي إيرث”. فقد أكّدت نتائج فريقه البحثي ما كان يسعى للتحقُّق منه، ليخرج مقتنعاً بأن الأنشطة البشريّة هي التي تسهم في إحترار الكوكب. وكتب في مقالٍ رأيٍ في صحيفة “التايمز” عام 2012: «اعتبروني متشكّكاً تحوّل إلى مؤمن».
وقد غيَّر فرانك لانتز، استشاري استطلاعات الرأي الجمهوري، هو الآخر موقفه من تغيُّر المناخ، وأصبح اليوم يقدّم المشورة للساسة حول سُبُل تحفيز التحرُّك المناخي.
ملاحظة أخيرة حول مسألة الشكّ: كثيرًا ما يستخدم المنكرون حالة عدم اليقين كدليلٍ على أنَّ علم المناخ لم يُحسَم بعد. غير أنّه في العلوم، لا يعني اللايقين نقصًا في المعرفة، بل هو مقياسٌ لمدى دقّة ما نعرفه. وفيما يتعلَّق بتغيّر المناخ، وجد العلماء نطاقًا من التغيّرات المستقبليّة المُحتملة في درجة الحرارة والهطولات وغير ذلك من العوامل المهمّة، وهي أمورٌ ستعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على مدى السرعة التي نُقلِّل بها انبعاثاتنا. ومع ذلك، فإنّ هذه الحالة من عدم اليقين لا تُقلِّل من ثقتهم بأنَّ تغيُّر المناخ حقيقة قائمة، وبأنّ البشر هم من يتسبَّبون به.
-3-
هل لدينا حقاً 150 عاماً فقط من بيانات المناخ؟ وكيف لنا أن نكتفي بها لإخبارنا عن قرون من التغيُّر؟
يتميَّز مناخ الأرض بتغيُّره الطبيعي على مرِّ الزمن؛ فبعض السنوات تكون أشدّ حرارةً من غيرها، وبعض العقود تشهد أعاصير أكثر من غيرها، في حين امتدَّ بعض الجفاف في الأزمنة الغابرة لعقودٍ طويلة. وتحدث الدورات الجليديّة على نطاق آلاف السنين. فكيف يستطيع العلماء الاعتماد على بياناتٍ جُمعت طوال فترةٍ قصيرة نسبيًّا ليصلوا إلى استنتاجٍ بأن البشر يتسبَّبون بإحترار الأرض؟ الجواب هو أنَّ ما لدينا من بياناتٍ يعتمد على القياسات الفعليّة لدرجات الحرارة، وهي تُقدِّم لنا الكثير من المعلومات. ولكنّ هذا ليس كلّ ما نملكه.
تعود السجلّات التاريخيّة إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر (وأحياناً قبل ذلك)، عندما بدأ الناس بقياس درجات الحرارة بانتظام في محطّات الأرصاد الجويّة وعلى متن السفن خلال رحلاتها في محيطات العالم. وتُظهر هذه البيانات بوضوح وجود منحنى احترار في القرن العشرين.
يُثار تساؤلٌ أحياناً عمّا إذا كانت هذه السجلات قد تنحرف عن الدقة، على سبيل المثال، نتيجةً لحقيقة أنَّ محطّات الأرصاد الجويّة تتركّز بشكلٍ كبيرٍ في المدن التي تميل إلى أن تكون أكثر حرارةً من المناطق المحيطة بها، بسبب ما يُسمّى تأثير “جزيرة الحرارة الحضرية”. ومع ذلك، يُجري الباحثون باستمرار تصحيحاتٍ لهذه الانحرافات المحتملة عند إعادة بناء درجات الحرارة العالميّة. علاوةً على ذلك، تؤكّد بياناتٌ مستقلّة – مثل رصد الأقمار الصناعيّة التي تغطّي الكوكب بأكمله، وطرائق أخرى لقياس تغيُّرات درجة الحرارة – وجود الاحترار.
وقد أُعطي أيضاً اهتمامٌ كبير للتقلُّبات الطفيفة أو فترات الهدوء التي تتخلَّل الاتجاه التصاعديّ في درجات الحرارة خلال المئة وخمسين عاماً الماضية. لكن هذه التذبذبات ما هي إلّا نتيجة للتغيُّرات المناخيّة الطبيعيّة أو لأنشطةٍ بشريّةٍ أخرى قد تُعارِض تأثير الاحتباس الحراري الناتج عن الغازات الدفيئة بصفةٍ مؤقتة. على سبيل المثال، في منتصف القرن العشرين، أدّت ديناميّات المناخ الداخليّة والتلوّث المانع لضوء الشمس الصادر من محطّات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم إلى توقُّف الاحتباس الحراري العالميّ لبضعة عقود. (وفي النهاية، دفعت زيادة الغازات الدفيئة وتشريعات ضبط التلوّث الكوكب إلى الاحتباس الحراري مجدّداً). وبالمثل، فإنّ ما سُمِّي “فترة الركود في الاحتباس الحراري” خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نتج جزئياً عن تذبذبات مناخيّة طبيعيّة سمحت بامتصاص المزيد من الحرارة في المحيط بدلًا من الغلاف الجوي. ومنذ ذلك الحين، سُجِّلت أشدُّ السنوات حرارةً على الإطلاق.
ولكن هل يمكن للقرن العشرين بأكمله أن يكون مجرّد تذبذبٍ مناخيٍّ طبيعيٍّ كبير؟ للإجابة على هذا التساؤل، ننظر في أنواع بياناتٍ أخرى تُقدِّم منظوراً زمنياً أطول. استخدم العلماء السجلات الجيولوجية، مثل حلقات الأشجار وعيّنات الجليد والشعاب المرجانيّة والرواسب البحريّة، التي تحتفظ بالمعلومات عن المناخات القديمة، لإطالة السجلّ المناخي. والنتيجة تُظهر أنَّ تغيُّر حرارة الكوكب ظلَّ مستقراً نسبياً على مدى قرون، ثمّ ارتفع ارتفاعاً حاداً خلال المئة وخمسين عاماً الأخيرة. وقد استهدفت هذه النتيجة من قِبَل مُنكري تغيُّر المناخ لعقودٍ، لكنّ الدراسات المتعاقبة أكَّدت صحّة هذه النتيجة؛ إذ تبيَّن أن الكوكب لم يشهد مثل هذه الدرجة من الحرارة منذ ألف عام على الأقل، وربما منذ مدة أطول بكثير.
-4-
كيف نعرف أنَّ الأنشطة البشريّة هي السَّبب في تغيُّر المناخ؟
درس العلماء التغيُّرات المناخيّة السابقة بغية فهم العوامل التي قد تجعل الكوكب يزداد حراً أو يزداد برودة. وأبرز هذه العوامل هي: التغيُّرات في الطاقة الشمسيّة، ودوران المحيطات، والنشاط البركاني، وكمّيات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي. وقد لعب كلٌّ منها دوراً في فتراتٍ مختلفة.
فعلى سبيل المثال، قبل 300 عام، تسبَّب تراجع النشاط الشمسي وازدياد النشاط البركاني في تبريد بعض أجزاء الكوكب إلى درجة أنَّ السكّان في لندن كانوا يتزلَّجون بانتظامٍ على نهر التايمز المتجمِّد. أمَّا قبل 12,000 عام، فقد أدّت تغيُّراتٌ كبيرةٌ في دوران المحيط الأطلسي إلى تدهور المناخ في نصف الكرة الشمالي، مُدخلًا إياه في فترةٍ شديدة البرودة. وفي المقابل، قبل 56 مليون سنة، أدّى انبعاثٌ هائلٌ للغازات الدفيئة – سواء من نشاطٍ بركانيٍّ أو من ترسُّبات ضخمة من غاز الميثان (أو كلاهما) – إلى رفع حرارة الكوكب فجأةً بنحو 9 درجات فهرنهايت (على الأقل)، ما أربك النظام المناخي، وخنق المحيطات، وأطلق موجةً من الانقراضات الجماعيّة.
ولمعرفة سبب التغيُّرات المناخيّة الحاليّة، عمد العلماء إلى فحص جميع هذه العوامل. وقد تذبذبت عوامل الطاقة الشمسيّة، ودوران المحيطات، والنشاط البركانيّ قليلاً على مدار القرون القليلة الماضية، وربما كانت لها تأثيراتٌ طفيفةٌ في المناخ، لا سيَّما قبل عام 1950. لكنَّها لا تفسِّر الارتفاع السريع في درجات حرارة الكوكب، وبالأخص في النصف الثاني من القرن العشرين، حين انخفضت فعلياً مستويات الإنتاجية الشمسية، وكان للنشاط البركاني تأثيرٌ مُبرِّد.
وأفضل تفسيرٍ لذلك الاحترار هو ارتفاع تركيز الغازات الدفيئة. تؤثِّر هذه الغازات بقوَّة في المناخ (انظر السؤال التالي لمعرفة السبب). ومنذ الثورة الصناعيّة، راح البشر يضيفون المزيد منها إلى الغلاف الجوي، وخاصةً عبر استخراج وحرق الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز، ما يؤدّي إلى إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون.
تُظهر فقاعات الهواء القديمة المحبوسة في عينات الجليد أنَّ تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي قبل نحو عام 1750 كان يدور حول 280 جزءاً في المليون. ثم بدأ يرتفع ببطءٍ ليجتاز عتبة 300 جزءٍ في المليون نحو عام 1900، قبل أن يتسارع مع تزايد الاعتماد على السيارات والكهرباء في الحياة المعاصرة، ليتجاوز مؤخراً مستوى 420 جزءاً في المليون. كذلك تضاعف تركيز الميثان – ثاني أهم غازٍ دفيء – إلى أكثر من مرّتين. ونحن اليوم نطلق الكربون بوتيرةٍ أسرع كثيراً من وتيرة انبعاثه قبل 56 مليون سنة.
لقد تسبَّبت هذه الزيادات السريعة في الغازات الدفيئة في ارتفاعٍ مفاجئٍ لدرجات الحرارة. وفي الواقع، تشير النماذج المناخيّة إلى أنَّ الاحتباس الحراري الناجم عن الغازات الدفيئة يفسِّر فعليًّا كلّ التغيُّر في درجات الحرارة منذ عام 1950. ووفقاً لأحدث تقرير صادرٍ عن الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيُّر المناخ، وهي الجهة التي تُقيِّم البحوث المنشورة في هذا المجال، فإن العوامل الطبيعية والتغيُّرات المناخيّة الداخليّة لا تفسِّر سوى جزءٍ بسيطٍ فقط من الاحتباس الحراري المسجَّل في أواخر القرن العشرين.
أوضحت دراسةٌ أخرى الأمر على هذا النحو: احتمال أن يحدث الاحتباس الحراري الحالي من دون انبعاثات غازاتٍ دفيئةٍ بشريّةٍ يقلّ عن 1 في 100,000.
لكنّ الغازات الدفيئة ليست المركّبات الوحيدة التي يضيفها البشر إلى الغلاف الجوي وتؤثِّر في المناخ؛ فحرق الوقود الأحفوري يُنتِج أيضًا جسيماتٍ ملوِّثة تعكس ضوء الشمس وتبرِّد الكوكب. ويقدِّر العلماء أنَّ هذا النوع من التلوُّث قد حجَب ما يصل إلى نصف الاحتباس الحراري الناتج عن الغازات الدفيئة، والذي كان من الممكن أن نشهده لولا ذلك.
-5-
لأنّ الغازات الدفيئة موجودةٌ طبيعياً، كيف نعرف أنَّها هي التي ترفع درجة حرارة الأرض؟
تضطلع الغازات الدفيئة، مثل بخار الماء وثاني أكسيد الكربون، بدورٍ مهمٍّ في المناخ. ولولاها لكانت الأرض باردةً جداً إلى حدٍّ لا يسمح ببقاء الماء في حالته السائلة، ولَما تمكَّنت البشريّة من الوجود!
إليكم كيف:
تعتمد حرارة الكوكب على مقدار الطاقة التي تمتصُّها الأرض من الشمس (ما يتسبّب في تدفئتها) ومقدار الطاقة التي تشعُّها الأرض باتجاه الفضاء على هيئة إشعاعٍ تحت الأحمر (ما يساهم في تبريدها). وبسبب تركيبها الجزيئي، تمتصُّ الغازات الدفيئة بعضاً من هذا الإشعاع تحت الأحمر المنطلق من الأرض بصورةٍ مؤقتة، ثم تُعيد إصداره في جميع الاتجاهات، ما يوجّه جزءاً من هذه الطاقة مجدّداً نحو السطح، فيزيد من دفء الكوكب. وقد أدرك العلماء هذه العمليّة منذ خمسينيات القرن التاسع عشر.
لقد شهدت نسب الغازات الدفيئة تغيُّراتٍ طبيعيّة على مرّ التاريخ. فعلى امتداد ملايين السنين، تغيَّرت مستويات ثاني أكسيد الكربون اعتماداً على مقدار ما كانت تنفثه البراكين في الغلاف الجوي، ومدى ما كانت تختزنه التفاعلات الجيولوجيّة. وعلى نطاقٍ زمنيٍّ بين مئات وآلاف السنين، تغيَّرت التراكيز بحسب دورة الكربون بين المحيط والتربة والهواء.
أمّا اليوم، فنحن المسؤولون عن رفع مستويات ثاني أكسيد الكربون بسرعةٍ غير مسبوقة، وذلك من خلال استخراج الكربون القديم من رواسب الوقود الأحفوري في باطن الأرض وإطلاقه في الجو عند حرقه. فمنذ عام 1750، ارتفعت تركيزات ثاني أكسيد الكربون بنحو 50 بالمئة تقريباً. كما ارتفعت تركيزات الميثان وأكسيد النيتروس – وهما غازان دفيئان مهمّان آخران يحدث معظم انبعاثاتهما بفعل أنشطة زراعيّة – خلال القرنين ونصف القرن الأخيرين.
بناءً على القواعد الفيزيائيّة المذكورة أعلاه، نعلم أنّ ارتفاع هذه الغازات الدفيئة ينبغي أن يؤدّي إلى تدفئة المناخ. وإلى جانب ذلك، نرى بعض “البصمات” الكاشفة لاحتباس حراري بفعل الغازات الدفيئة. على سبيل المثال، ترتفع حرارة الليالي أسرع من حرارة النهارات، لأن الغازات الدفيئة لا تختفي مع مغيب الشمس. كما أنَّ طبقات الغلاف الجوي العليا أخذت في البرودة، لأن مزيداً من الطاقة يُحجَز في طبقات الغلاف الجوي الأدنى بفعل الغازات الدفيئة.
ونعلم أيضاً أنّنا سبب ارتفاع تراكيز الغازات الدفيئة – وليس فقط لأنّ بإمكاننا قياس كمّيّة ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من عوادم السيّارات ومداخن المصانع، بل لأنّنا نجد ذلك في البصمة الكيميائيّة للكربون في جزيئات ثاني أكسيد الكربون.
يوجد الكربون في ثلاثة أشكال تختلف بحسب الكتلة الذريّة: 12 و13 و14. أمّا المكوّنات ذات الأصل العضوي (بما في ذلك الوقود الأحفوري) فعادةً ما تحتوي على نسبةٍ أقل نسبياً من الكربون-13. في المقابل، تطلق البراكين ثاني أكسيد الكربون بنسبةٍ أعلى نسبياً من الكربون-13. وخلال القرن الأخير، ازدادت نسبة الكربون “الأخفّ” في غلافنا الجوي، ما يشير إلى مصدرٍ عضوي.
كما نستطيع أن نتأكّد من قِدم هذا الكربون العضوي من خلال البحث عن الكربون-14، وهو نظيرٌ مشعٌّ يتحلَّل بمرور الزمن. يتعذّر أن تبقى أيّ كمّية من الكربون-14 في الوقود الأحفوري نظراً لقدم عهده الهائل، ولو كان مصدر الارتفاع في تركيز ثاني أكسيد الكربون هو هذا الوقود بالفعل، فينبغي أن تنخفض نسبة الكربون-14 في الغلاف الجوي. وهذا هو تحديداً ما تظهره البيانات.
ومن المهمّ التنبيه إلى أنّ بخار الماء هو أكثر الغازات الدفيئة وفرةً في الغلاف الجوي، لكنّه لا يسبِّب الاحتباس الحراري، إنّما يستجيب له. فالهواء الأكثر حرارة قادرٌ على الاحتفاظ بمزيدٍ من الرطوبة، وهكذا تتشكَّل حلقة تغذية راجعة تؤدّي فيها زيادة الحرارة الناتجة عن الأنشطة البشريّة إلى حمل الغلاف الجوي بقدرٍ أكبر من بخار الماء، ما يفاقم التغيُّرات المناخيّة. وقد ضاعفت هذه الدائرة من الاحتباس الحراري الناتج عن انبعاثات الغازات الدفيئة البشريّة.
-6-
لماذا يُعَدُّ ارتفاع درجة حرارة الكوكب بمقدار درجتين فهرنهايت منذ القرن التاسع عشر أمراً مُقلقاً؟
يعود أحد أبرز أسباب اللَّبس عند الحديث عن تغيُّر المناخ إلى الفرق بين الطقس والمناخ. فالطقس هو مجموعة الحالات الجويّة المتغيرة باستمرار التي نختبرها عندما نخرج إلى الخارج، في حين أنَّ المناخ هو المتوسّط طويل المدى لتلك الحالات، ويُحسب عادةً على مدى ثلاثين عاماً. أو كما يقول البعض: الطقس هو حالتك المزاجية ، أمَّا المناخ فهو شخصيتك.
لذلك، فإنَّ درجتين فهرنهايت لا تمثِّل تغيُّراً كبيراً في الطقس اليومي، ولكنَّها تغيُّرٌ هائلٌ في المناخ. وكما رأينا سابقاً، فإنَّ هذا الارتفاع كافٍ لإذابة الجليد، ورفع منسوب البحار، وتغيير أنماط الهطولات حول العالم، وإعادة تشكيل الأنظمة البيئية؛ ما يدفع الحيوانات إلى الهروب بحثًا عن بيئاتٍ أكثر برودة، ويؤدِّي إلى موت ملايين الأشجار.
من المهم أيضاً أن نتذكَّر أنَّ درجتين فهرنهايت تمثِّل متوسِّطاً عالمياً، فالكثير من مناطق العالم قد شهدت ارتفاعاً يفوق هذا المعدَّل. فعلى سبيل المثال، ازدادت حرارة المناطق البريّة بنحو ضعف معدَّل ارتفاع حرارة سطح البحر. أمَّا القطب الشمالي، فقد ارتفعت حرارته بنحو 5 درجات، وذلك لأنَّ التراجع في الثلوج والجليد عند خطوط العرض المرتفعة يسمح بامتصاص الأرض للمزيد من الطاقة، ما يزيد الاحترار فوق الاحتباس الحراري الأساسي الناجم عن الغازات الدفيئة.
كما أنَّ تغيُّراتٍ طويلة المدى صغيرة نسبياً في متوسِّطات المناخ يمكنها أن تُحدِث تحوُّلاتٍ كبيرة في درجات الحرارة القصوى. فعلى سبيل المثال، لطالما حدثت موجات حرٍّ، ولكنّها في السنوات الأخيرة حطَّمت أرقامًا قياسيّة. ففي يونيو 2020، سجَّلت إحدى البلدات في سيبيريا درجات حرارة بلغت 100 درجة فهرنهايت. وفي أستراليا، أضاف خبراء الأرصاد لوناً جديداً إلى خرائط الطقس الخاصَّة بهم، ليمثِّل المناطق التي تتخطّى فيها الحرارة 125 درجة فهرنهايت. كما أدّى ارتفاع منسوب البحار إلى زيادة خطر الفيضانات الناجمة عن العواصف والمدِّ والجَزْر. هذه جميعها نُذُرٌ مبكِّرة من تغيُّر المناخ.
ونحن مقبلون على مزيدٍ من التغيُّرات في المستقبل —إذ قد تصل الزيادة إلى تسع درجات فهرنهايت في متوسِّط درجة الحرارة العالمي بحلول نهاية هذا القرن، في أسوأ السيناريوهات. وللمقارنة، فإنَّ الفارق في متوسِّط درجات الحرارة العالمية بين الآن وأوج العصر الجليدي الأخير، حينما كانت الصفائح الجليدية تغطِّي أجزاءً واسعةً من أميركا الشمالية وأوروبا، يبلغ نحو 11 درجة فهرنهايت.
بموجب اتفاقية باريس للمناخ، التي أعاد الرئيس بايدن الانضمام إليها مؤخراً، اتفقت الدول على السعي للحد من الاحتباس الحراري العالمي بحيث يتراوح بين 1.5 و2 درجة مئوية، أي ما بين 2.7 و3.6 درجات فهرنهايت، مقارنةً بعصر ما قبل الثورة الصناعية. ورغم أنَّ هذا النطاق يبدو محدوداً، إلَّا أنَّ له تبعاتٍ هائلة. تُظهِر الدراسات العلمية أنَّ الفارق بين 2.7 و3.6 درجات فهرنهايت قد يُحدِّد ما إذا كانت الشعاب المرجانيّة ستتمكَّن من البقاء أم ستنقرض، وما إذا كان الجليد البحري في القطب الشمالي سيصمد خلال الصيف أم يختفي تماماً. كما سيُحدِّد هذا الفارق عدد الملايين من الأشخاص الذين سيعانون شحاً في المياه وفشلاً في المحاصيل، ومدى اضطرارهم إلى النزوح من منازلهم بفعل ارتفاع مستوى البحار. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ درجةً فهرنهايت واحدة قد تُحدِث فارقاً جذرياً في العالم.
-7-
هل تغيُّر المناخ جزءٌ من الدورات الطبيعية للاحتباس الحراري والتبريد التي يشهدها الكوكب؟
لطالما تبدّل مناخ الأرض عبر العصور. فقبل مئات الملايين من السنين، تجمّد الكوكب بأسره. وقبل خمسين مليون عام، عاشت التماسيح في المنطقة التي نسمّيها اليوم القطب الشمالي. وعلى مدى 2.6 مليون سنة الأخيرة، تتالت على الأرض دوراتٌ جليديةٌ تناوبت خلالها فتراتٌ كان الكوكب فيها أشدَّ برودةً بنحو 11 درجة، وتراكمت الصفائح الجليدية فوق أجزاءٍ واسعةٍ من أميركا الشمالية وأوروبا، وفتراتٌ بين جليدية أدفأ، كالتي نعيشها حالياً.
غالباً ما يستند منكرو تغيُّر المناخ إلى هذه التغيُّرات الطبيعيّة لإثارة الشكّ في أنَّ البشر هم سبب التغيُّر المناخي الحالي. بيد أنّ هذا الاستدلال يقوم على مغالطةٍ منطقيّة. فهو أشبه بـ«مشاهدة جثمانٍ مقتول، ثم الاستنتاج أنَّ أشخاصاً ماتوا لأسبابٍ طبيعية في الماضي، وبالتالي فإنّ ضحيّة القتل لابدَّ أن يكون قد ماتت هي الأخرى بسبب أسبابٍ طبيعية»، كما كتب فريقٌ من علماء الاجتماع في “كُتيّب تفنيد”، الذي يشرح استراتيجيّات التضليل وراء كثيرٍ من الأساطير المناخية.
في الواقع، نعلم أنَّ آليات مختلفة تسبَّبت في تغيُّر المناخ في الماضي. فعلى سبيل المثال، كانت الدورات الجليديّة تنطلق بسبب تغيُّراتٍ دوريّةٍ في مدار الأرض، تحدث على امتداد عشرات الآلاف من السنين، وتؤثِّر في كيفيّة توزُّع الطاقة الشمسيّة على الكوكب وعلى الفصول.
هذه التغيُّرات المداريّة لا تُحدِث تأثيراً كبيراً في درجة حرارة الكوكب بمفردها، لكنّها تؤدّي إلى سلسلةٍ من التغيّرات الأخرى في النظام المناخي؛ مثل نمو أو ذوبان الصفائح الجليديّة الشاسعة في نصف الكرة الشمالي، وتغيُّر أنماط دوران المحيطات. وهذه التغيّرات، بدورها، تؤثِّر في المناخ عبر تغيير كميات الثلج والجليد التي تعكس ضوء الشمس، وكذلك من خلال تبدُّل تركيزات الغازات الدفيئة. وهذه المعطيات هي جزءٌ ممّا يؤكِّد قدرتَها الكبيرة على التأثير في درجة حرارة الأرض.
وعلى مدى 800 ألف عامٍ على الأقل، تراوحت تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بين نحو 180 جزءاً في المليون خلال العصور الجليديّة ونحو 280 جزءًا في المليون في الفترات الأدفأ، إذ كان الكربون ينتقل بين المحيطات والغابات والتربة والغلاف الجوي. وقد جرت هذه التغيُّرات بالتزامن مع درجات الحرارة العالميّة، وكانت سبباً جوهرياً في تسخين الكوكب وبرودته أثناء الدورات الجليديّة، لا في القطبين المتجمّدين وحدهما.
غير أنّ تركيزات ثاني أكسيد الكربون اليوم قد قفزت لتبلغ 420 جزءاً في المليون؛ وهذا أعلى مستوى يصل إليه خلال ثلاثة ملايين سنة على الأقل. كما ارتفع تركيز ثاني أكسيد الكربون الآن أسرع بمئة مرّة تقريباً من وتيرته في نهاية العصر الجليدي الأخير. ويشير هذا إلى وجود عاملٍ آخرٍ فاعل، ونحن نعرفه تماماً: فمنذ الثورة الصناعيّة، والبشر يحرقون الوقود الأحفوري ويطلقون الغازات الدفيئة التي تتسبّب حالياً في احترار الكوكب (انظر السؤال الخامس لمزيدٍ من التفاصيل حول كيف نعرف ذلك، والأسئلة 4 و8 لمعرفة سبب عدم مسؤوليّة القوى الطبيعيّة الأخرى).
وخلال القرن أو القرنين المقبلين، سوف تختبر المجتمعات والنظم البيئية تبعات هذا التغيُّر المناخي. بيد أنَّ الانبعاثات التي نطلقها سيكون لها آثارٌ جيولوجيّةٌ أشدّ ديمومة: فوفقًا لبعض الدراسات، قد تكون مستويات الغازات الدفيئة الراهنة قد رفعت حرارة الكوكب بما يكفي لتأخير بدء دورةٍ جليديّةٍ جديدة مدةً إضافيّةً لا تقلّ عن 50 ألف سنة.
-8-
كيف نعرف أنَّ الاحتباس الحراري العالمي ليس بسبب الشّمس أو البراكين؟
تُمثِّل الشمس مصدر الطاقة الأساسي في نظام مناخ الأرض، لذا من المنطقي التساؤل عما إذا كانت هي المسؤولة عن تغيّر المناخ. وبالطبع، شهد النشاط الشمسي تغيُّرات عبر الزمن. نعلم من قياسات الأقمار الصناعيّة وملاحظاتٍ فلكيّة أخرى أنَّ إنتاجية الشمس تتذبذب في دوراتٍ مدّتها 11 عاماً. كما تُظهِر السجلات الجيولوجيّة وأعداد البقع الشمسيّة، التي وثَّقها علماء الفلك طوال قرونٍ، تغيُّراتٍ بعيدة المدى في نشاط الشمس، بما في ذلك فترات هدأت فيها بشكلٍ استثنائي أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
نعلم أيضاً أنَّ الإشعاع الشمسي ازداد منذ عام 1900 وحتّى خمسينيات القرن العشرين. وتشير دراساتٌ إلى أنَّ لهذا الازدياد أثراً محدوداً في مناخ أوائل القرن العشرين، بحيث يفسِّر ما يصل إلى 10 بالمئة من الاحترار الذي حدث منذ أواخر القرن التاسع عشر. غير أنَّ النصف الثاني من القرن العشرين، حيث وقع أغلب الاحترار، شهد في الواقع انخفاضاً في النشاط الشمسي. ويُعَدُّ هذا التباين أحد الأسباب الرئيسيّة التي تخبرنا بأنَّ الشمس ليست القوة الدافعة خلف تغيّر المناخ الحالي.
ومن الأسباب الأخرى التي تؤكد أنَّ النشاط الشمسي ليس المسبّب للاحترار الأخير أنَّه لو كان كذلك، لكان من المفترض أن ترتفع حرارة جميع طبقات الغلاف الجوي. لكنّ البيانات تظهر أنَّ الطبقات العليا من الغلاف الجوي قد انخفضت حرارتها في العقود الأخيرة — وهي سِمةٌ مميِّزة للاحتباس الحراري الناجم عن الغازات الدفيئة.
ماذا عن البراكين؟
تؤدّي ثورات البراكين إلى تبريد الكوكب بوساطة ضخِّ الرماد والجسيمات الدقيقة في الغلاف الجوي، حيث تعمل على عكس ضوء الشمس. وقد لوحظ هذا التأثير في السنوات التي تلت ثوراتٍ بركانيّةٍ كبرى. وتوجد أمثلةٌ تاريخيّةٌ مهمّة، مثل بركان لاكي في آيسلندا عام 1783 الذي تسبَّب بخسائر كبيرة في المحاصيل بأوروبا وغيرها، وكذلك ال“عام بلا صيف” الذي أعقب ثوران جبل تامبورا في إندونيسيا عام 1815.
ولأنَّ البراكين عموماً تُسهم في تبريد المناخ، فلا يمكنها تفسير الاحترار الأخير. لكن يقول العلماء إنّها ربما ساهمت بدرجةٍ بسيطةٍ في ارتفاع درجات الحرارة في أوائل القرن العشرين، إذ حدثت عدّة ثورات بركانيّةٍ كبيرة أواخر القرن التاسع عشر كانت قد برَّدت الكوكب، ثم أعقبتها عقودٌ خلت من الثورات الكبرى، ما سمح للحرارة بالارتفاع مجدَّداً. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، تزامنت ثورات بركانيّةٌ مهمّةٌ مع تسارع وتيرة احترار الكوكب. ولو أدّت البراكين إلى أي تأثير إضافي، فقد كان في حجب جزءٍ من الاحترار الناجم عن الأنشطة البشريّة بصورةٍ مؤقّتة.
كما يمكن للبراكين التأثير في المناخ عبر إطلاق ثاني أكسيد الكربون. وهذا عاملٌ مهم على مدار ملايين السنين — فهو ما يحافظ على صلاح الكوكب للحياة (انظر السؤال الخامس لمعرفة المزيد عن تأثير الغازات الدفيئة). لكن بالمقارنة مع الانبعاثات البشريّة الحالية، لا تمثِّل حتّى الثورات البركانيّة الكبرى، مثل كراكاتوا وجبل سانت هيلين، سوى قطرةٍ في بحر. فالثورات تدوم بضع ساعاتٍ أو أيّام، في حين نحرق الوقود الأحفوري بلا توقّف طوال أيام الأسبوع. وتشير الدراسات إلى أنَّ البراكين تتسبب اليوم في 1 إلى 2 بالمئة فقط من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
-9-
كيف يمكن أن تشهد بعض المناطق وفصول الشتاء برودةً أكبر في حين أنّ الكوكب يزداد حرارةً؟
عندما تضرب عاصفةٌ ثلجيّةٌ كبيرة الولايات المتحدة، يحاول منكرو تغيُّر المناخ أحياناً اتّخاذها دليلاً على عدم وجود تغيُّر مناخي. ففي عام 2015، ألقى السناتور الجمهوري جيمس إينهوف كرةَ ثلجٍ في قاعة مجلس الشيوخ نافياً صحّة علم المناخ. لكنّ هذه الأحداث لا تنفي فعلياً حقيقة تغيُّر المناخ.
صحيحٌ أن السنوات الأخيرة شهدت بعض العواصف الثلجيّة اللافتة، لكنّ فصول الشتاء تزداد حرارةً في مختلف أنحاء العالم. ففي الولايات المتحدة مثلاً، ارتفعت متوسِّط درجات الحرارة خلال أشهر ديسمبر ويناير وفبراير بنحو 2.5 درجة فهرنهايت منذ بداية هذا القرن.
في المقابل، أصبح عدد الأيّام التي تُسجّل أرقاماً قياسيةً في البرودة أقلّ من تلك التي تُسجّل أرقاماً قياسيةً في الحر. وفي الولايات المتحدة، يفوق حالياً عدد الأرقام القياسيّة للحرارة المرتفعة نظيرتها للحرارة المنخفضة بواقع اثنين إلى واحد. كما أصبحت المساحات التي تشهد درجات برودة شتوية قصوى آخذةً في التناقص (وهذا النمط يتكرّر عالمياً).
إذًا، ما الذي يفسِّر العواصف الثلجيّة؟ الطقس في طبيعة الحال متقلِّب، لذا ليس غريباً أن نستمرَّ في مواجهة عواصف شتويّة شديدة رغم ارتفاع المتوسِّط العام لدرجات الحرارة. بل إنّ بعض الدراسات تقترح أن تغيُّر المناخ قد يكون هو السبب وراء ذلك. فتقول إحدى الفرضيات إنّ الاحترار السريع في المنطقة القطبية الشماليّة قد أثّر في الأنظمة الجويّة، بما فيها التيّار الهوائيّ السريع عالي الارتفاع الذي يحيط عادةً بالقطب الشمالي (المعروف بالدوامة القطبية Polar Vortex). وتشير بعض الدراسات إلى أنّ هذه التغيُّرات قد تدفع بالهواء القطبي البارد إلى خطوط العرض الأدنى، وتجعل أنظمة الطقس تتباطأ في حركتها، ما يسمح للعواصف بالتسبُّب في مزيد من تساقط الثلوج. ويحتمل أن يفسِّر ذلك ما اختبرناه في الولايات المتحدة خلال العقود الماضية، وأيضاً اتّجاه انخفاض حرارة الشتاء في سيبيريا، وإن كانت كيفية تأثير المنطقة القطبية في الطقس العالمي لا تزال موضع نقاشٍ علميٍّ مستمر.
وقد يُفسِّر تغيُّر المناخ أيضاً المفارقات الظاهريّة في بعض بقاع الأرض التي لم تشهد احتراراً كبيراً. ففي شمال الأطلسي مثلاً، ظهرت بقعة مياه باردة في السنوات الأخيرة، ويعتقد العلماء أنها قد تكون نتيجة تباطؤ دوران المياه في المحيط بسبب تدفُّق المياه العذبة الناتجة عن ذوبان غرينلاند. وإذا ما كاد هذا الدوران أن يتوقَّف تماماً، كما حدث في حقبٍ جيولوجيّةٍ سابقة، فإنّه سيؤدّي إلى تغيُّرات كبيرة في أنماط الطقس العالميّة.
وليس كلّ طقسٍ باردٍ ناتجاً عن نتيجةٍ جانبيةٍ غير متوقَّعة لتغيُّر المناخ. لكنّ ذلك يذكّرنا بأنّ نظام مناخ الأرض معقّدٌ وفوضويّ، وأنّ النتائج التي يخلّفها التغيُّر المناخيّ بفعل الإنسان تتباين في المناطق المختلفة. لهذا السبب، قد يُعتبر مصطلح “الاحتباس الحراري العالمي” مبسِّطاً بعض الشيء، ويشير بعض العلماء إلى أنّ المصطلح الأدقّ للظاهرة هو “الاختلال المناخي العالمي” (Global Weirding).
-10-
الحرائق الهائلة والطقس السيء كانت موجودة على الدوام. كيف نعرف أن هناك صلةً تربطها بتغيّر المناخ؟
إنَّ الأحوال الجوية المتطرفة والكوارث الطبيعية جزءٌ من حياة الأرض — ويكفي أن نسأل الديناصورات عن ذلك. ولكن ثمّة أدلّة قوية على أنَّ تغيّر المناخ قد زاد من وتيرة وحدّة ظواهر معيّنة كالأمواج الحارّة، والجفاف، والفيضانات. وفي الآونة الأخيرة، أتاحت الأبحاث العلميّة للباحثين تعرُّف تأثير تغيّر المناخ في أحداثٍ بعينها.
فلنبدأ بموجات الحرّ. تُظهِر الدراسات أنَّ فترات الارتفاع غير الطبيعي في درجات الحرارة تحدث في الوقت الراهن بنحو خمسة أضعاف ما قد تكون عليه في غياب تغيّر المناخ، كما أنَّ مدَّتها أصبحت أطول أيضاً. وتتوقَّع النماذج المناخية أنه بحلول عام 2040، قد تتكرّر موجات الحر بنحو 12 مرّة أكثر. وهذا الأمر مقلق، إذ تتسبّب الحرارة الشديدة في ارتفاع حالات الدخول إلى المستشفيات والوفيات، خصوصاً بين كبار السن والأشخاص المصابين بمشكلاتٍ صحيةٍ مسبقة. فمثلًا، في صيف عام 2003، تسبَّبت موجة حر بوفاة 70,000 شخصٍ زيادةً عن المعدل الطبيعي في أرجاء أوروبا (الاحتباس الحراري بفعل الإنسان أسهم في مفاقمة عدد الوفيات).
لقد فاقم تغيُّر المناخ أيضاً حالات الجفاف، وخاصّةً عبر زيادة التبخُّر. إذ تحدث حالات الجفاف طبيعياً بفعل التقلُّبات المناخية العشوائية وعوامل مثل ظاهرة النينيو أو النينيا في المحيط الهادئ الاستوائي، لكن بعض الباحثين وجدوا أدلّةً على أنَّ الاحتباس الحراري الناجم عن الغازات الدفيئة كان يؤثِّر في حالات الجفاف منذ ما قبل أزمة “وعاء الغبار” Dust Bowl وما زال يؤثِّر حتى اليوم. ووفقاً لأحد التحليلات، فقد كان الجفاف الذي ضرب جنوب غرب الولايات المتحدة بين عامي 2000 و2018 أشدّ بنسبةٍ تقارب 50 بالمئة بفعل تغيُّر المناخ. وكان هذا أسوأ جفاف تشهده المنطقة في أكثر من ألف سنة.
كما أدّى ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة شدّة حوادث الترسبات الغزيرة وما يترتّب عليها من فيضاناتٍ في كثيرٍ من الأحيان. فعلى سبيل المثال، وجدت دراساتٌ أنَّه بسبب احتواء الهواء الأكثر دفئًا على كمّياتٍ أكبر من الرطوبة، فإنّ إعصار هارفي الذي ضرب هيوستن عام 2017 تسبَّب في هطول أمطارٍ تفوق النسبة المتوقَّعة بغياب تغيُّر المناخ بنحو 15 إلى 40 بالمئة.
ما تزال صورة تأثير تغيُّر المناخ في العدد الإجمالي للأعاصير غير واضحة، لكن من المؤكَّد أنَّه جعلها أشدّ قوّةً. ويبدو أنّ احترار المناخ يفضّل أنماطاً معينة من الطقس، مثل تلك التي أدَّت إلى أحداث “خرطوم مياه الغرب الأوسط” (Midwest Water Hose)، والتي تسبّبت بفيضاناتٍ مدمّرة في تلك المنطقة عام 2019.
من المهمّ تذكُّر أنَّ معظم الكوارث الطبيعيّة تنجم عن عدّة عوامل في آنٍ واحد. ففي فيضانات الغرب الأوسط عام 2019، مثلاً، جاء ذلك بعد موجة بردٍ حديثةٍ جمّدت التربة ومنعتها من امتصاص مياه الأمطار، ممّا زاد التدفق السطحي إلى نهري ميسوري وميسيسيبي. إلى جانب ذلك، فقد أُعيد تشكيل مجاري هذه الأنهار بواسطة السدود ووسائل هندسيةٍ أخرى، وقد انهار بعضها أثناء الفيضانات.
ويعدّ اشتعال حرائق الغابات مثالاً آخر لظاهرةٍ متعدّدة العوامل. ففي أماكن كثيرة، ازدادت مخاطر الحرائق نتيجة حظر عمليات الاحتراق الطبيعي ومنع السكان الأصليين من القيام بممارسات الحرق التقليدية، ما أدّى إلى تراكم الوقود الذي يزيد اشتعال الحرائق الحالية ضراوةً.
ومع ذلك، يلعب تغيُّر المناخ دوراً رئيسياً في جعل الغابات أكثر سخونةً وجفافًا، فتتحوَّل إلى علب ثقابٍ قابلةٍ للاشتعال. وتُظهِر الدراسات أنَّ الاحتباس الحراري هو العامل الرئيس وراء زيادة الحرائق في السنوات الأخيرة، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أنَّ تغيُّر المناخ مسؤول عن مضاعفة المساحة المحترقة في الغرب الأميركي بين عامي 1984 و2015. ويُرجِّح الباحثون أن يزيد الاحتباس الحراري من شدّة خطورة الحرائق ومساحتها في المستقبل.
-11-
ما مدى سوء الآثار المتوقَّعة لتغيُّر المناخ؟
يعتمد ذلك على مدى الحزم الذي نتعامل به مع تغيُّر المناخ. فإذا واصلنا السير بالوتيرة الحاليّة دون إجراء تغييرات جذرية، فمن المتوقَّع أنه بحلول نهاية القرن، ستصبح درجات الحرارة في موجات الحرّ في مناطق الشرق الأوسط وجنوب آسيا مرتفعةً إلى درجةٍ يستحيل معها الخروج إلى الهواء الطلق. وستتعرَّض مناطقٌ كأمريكا الوسطى وحوض البحر المتوسط وجنوب القارة الإفريقية لفترات جفافٍ حاد. كما ستغمر البحار المرتفعة الكثير من الجزر والمناطق الساحلية المنخفضة، من ولاية تكساس إلى بنغلادش. وفي المقابل، قد يؤدّي تغيُّر المناخ إلى احترار مرغوبٍ في بعض المناطق وتمديد مواسم الزراعة في أجزاء من الغرب الأوسط الأعلى بالولايات المتحدة وكندا والدول الإسكندنافية وروسيا. لكن في المناطق الشماليّة الأبعد، سيؤدّي فقدان الثلوج والجليد والتربة الصقيعيّة إلى قلب حياة الشعوب الأصلية رأسًا على عقب وتهديد البنية التحتيّة.
الأمور معقَّدة، لكن الرسالة الأساسية بسيطة: استمرار تغيُّر المناخ دون رادع سيُفاقم على الأرجح أوجه اللامساواة القائمة. فعلى مستوى الدول، ستكون الدول الأفقر الأكثر تضرُّرًا، بالرغم من أن نصيبها التاريخي من انبعاث الغازات الدفيئة لا يكاد يذكر. ويعود السبب إلى أن العديد من الدول النامية تقع في المناطق الاستوائية، حيث سيجعل الاحترار الإضافي المناخ غير محتملٍ أكثر للبشر والمحاصيل. كما أن مثل هذه البلدان تعاني غالبًا نقاط ضعفٍ أكبر، مثل السواحل المأهولة بكثافة، وسكّانٍ يقطنون في مساكن بدائيةٍ تهشّ بسهولة أمام العواصف. وإلى جانب ذلك، فهي تملك موارد أقلّ للتكيّف، الأمر الذي يتطلَّب إجراءاتٍ مكلفةٍ كإعادة تصميم المدن، وهندسة السواحل، وتعديل نظم الزراعة.
وحتّى عام 2000، أي بين 1961 و2000، يبدو أنَّ تغيُّر المناخ قد أضرّ باقتصادات الدول الأكثر فقراً، في حين ساعد في ازدهار الدول الأكثر ثراءً، تلك المسؤولة بأكبر قدرٍ عن المشكلة أصلاً. وقد أدّى ذلك إلى توسيع الفجوة العالميّة في الثروة بنسبةٍ بلغت 25 بالمئة عمّا كانت عليه. وبالمثل، وجد “مؤشِّر المخاطر المناخية العالمي” أن الدول ذات الدخل المنخفض — مثل ميانمار وهايتي ونيبال — جاءت ضمن قائمةٍ متصدِّرةٍ للدول الأشدّ تضرراً بالأحوال الجوية المتطرفة بين عامي 1999 و2018. كما أسهم تغيُّر المناخ في زيادة الهجرة البشريّة، ومن المرجَّح أن تتصاعد هذه الظاهرة كثيراً.
وحتى داخل الدول الغنية، سيعاني الفقراء والفئات المهمّشة أشدّ المعاناة. فالأشخاص الذين يمتلكون موارد أكثر تتوفر لديهم سُبُل حماية أكبر، مثل المكيّفات التي تقيهم قيظ موجات الحرّ الخطرة، فضلاً عن استطاعتهم تحمُّل نفقات الطاقة المرتفعة. كما يسهل عليهم إخلاء منازلهم قبل الكوارث، واستعادة أوضاعهم بعد ذلك. أما الأفراد ذوو الدخل المنخفض، فتقلّ لديهم تلك الامتيازات، فضلاً عن أنّهم غالباً ما يعيشون في أحياءٍ أشدّ حرارةً ويعملون في الهواء الطلق، ما يعرّضهم مباشرةً لآثار تغيُّر المناخ.
هذه التفاوتات ستظهر على مستوى الأفراد والمجتمعات والمناطق. ففي تحليلٍ أُجري عام 2017 في الولايات المتحدة، تبيَّن أنه في حال الاستمرار بالنهج نفسه، فإن الثلث الأفقر من المقاطعات (غالبيتها في الجنوب) ستتكبّد خسائر قد تصل إلى 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن مناطق أخرى، في الشمال في الغالب، قد تحقق مكاسب اقتصادية متواضعة. وقد قال سولومون شيانغ، عالم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي والمؤلف الرئيس في الدراسة، إنّ تغيُّر المناخ “ربما يقود إلى أكبر عملية نقلٍ للثروة من الفقراء إلى الأغنياء في تاريخ البلد”.
لكن هذا لا يعني أنّ “الفائزين” المناخيين سيكونون بمنأى تماماً عن آثاره. فالمناطق الجذّابة ستواجه تدفقًا كبيرًا للمهاجرين. وكما أوضحت جائحة فيروس كورونا، فإنّ الكوارث في منطقةٍ ما تنتشر تبعاتها بسرعة عبر الاقتصاد العالمي. وعلى سبيل المثال، يتوقع العلماء أن يزيد تغيُّر المناخ من احتمالية فشل المحاصيل في عدّة مناطقٍ في وقتٍ متزامن، الأمر الذي قد يزجّ بالعالم في أزمةٍ غذائيّة.
علاوةً على ذلك، يسهم الطقس الأكثر دفئاً في انتشار الأمراض المُعدية وناقلاتها، مثل القراد والبعوض. كما وجدت الأبحاث ارتباطاتٍ مقلقةٍ بين ارتفاع درجات الحرارة وزيادة العنف بين الأفراد، ويُعَدُّ تغيُّر المناخ على نطاقٍ واسع “مضاعِف تهديد” يرفع احتماليّة وقوع نزاعاتٍ أكبر، سواء داخل الدول أو فيما بينها. وبمعنى آخر، سيجلب تغيُّر المناخ تحوّلاتٍ كثيرة لا يمكن لأي قدر من الأموال أن يوقفها. ولعلَّ ما يعيننا هو اتّخاذ الخطوات اللازمة للحدّ من الاحترار.
-12-
ما تكلفة التحرُّك لمواجهة تغيُّر المناخ مقارنةً بعدم فعل أي شيء؟
إحدى الحجج الشائعة ضد اتخاذ إجراءات صارمة للحدّ من تغيُّر المناخ هي أنّ ذلك سيضرّ الوظائف ويشلّ الاقتصاد. لكن هذا الطرح يفترض وجود خيارٍ بديل لا نتكبّد فيه أي تكلفة للتعامل مع تغيُّر المناخ، وهذا غير ممكن، للأسف. في الواقع، الامتناع عن مواجهة تغيُّر المناخ سيكلّفنا الكثير، وسينطوي على معاناةٍ بشريةٍ هائلة وأضرارٍ بيئيةٍ جسيمة، في حين أنَّ التحوُّل إلى اقتصادٍ أكثر حفاظاً على البيئة قد يعود بالفائدة على كثيرٍ من البشر والأنظمة البيئية حول العالم.
كم ستبلغ تكلفة مواجهة تغيُّر المناخ؟
للإبقاء على الاحتباس الحراري أقل من درجتَيْن مئويتَيْن، الهدف المنصوص عليه في اتفاق باريس للمناخ، ينبغي للمجتمعات أن تبلغ مستوى “صفرٍ صافٍ” للانبعاثات بحلول منتصف هذا القرن. ويستوجب ذلك استثماراتٍ كبيرة في مصادر الطاقة المتجدِّدة، والسيارات الكهربائية وبُناها التحتية، إلى جانب إجراءاتٍ للتكيُّف مع ازدياد درجات الحرارة وارتفاع منسوب البحار وغيرها من التأثيرات التي لا مفر منها. وسنحتاج إلى تنفيذ هذه التغييرات بسرعة.
تختلف التقديرات تفاوتاً كبيراً؛ فقد أظهرت إحدى الدراسات الحديثة أن الإبقاء على الاحتباس الحراري عند 2 درجةٍ مئويةٍ يتطلَّب استثماراً إجمالياً يتراوح بين 4 تريليونات و60 تريليون دولار، مع تقديرٍ وسطي يبلغ 16 تريليون دولار. أمَّا الإبقاء عليه عند 1.5 درجةٍ مئويةٍ فقد يكلِّف ما بين 10 تريليونات و100 تريليون دولار، بمتوسّطٍ قدره 30 تريليون دولار. (للمقارنة، كان حجم الاقتصاد العالمي بأكمله يبلغ نحو 88 تريليون دولار عام 2019.) وتشير دراساتٌ أخرى إلى أن الوصول إلى مستوى صفرٍ صافٍ يتطلّب استثمارات سنوية تتراوح ما بين أقل من 1.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي إلى ما يصل إلى 4 بالمئة منه. هذه النسبة مرتفعةٌ حقًّا، ولكنها تبقى ضمن النطاق التاريخي الذي شهدته بلدان مثل الولايات المتحدة فيما يخصّ الاستثمارات في قطاع الطاقة.
ما تكلفة تجاهل تغيُّر المناخ؟
التكلفة ستكون أثقل وقعاً على الفئات الأكثر ضعفاً. تشمل هذه التكاليف الأضرار التي ستلحق بالممتلكات والبنية التحتيّة جرّاء ارتفاع مستوى البحر والأحوال الجوية المتطرّفة، وحالات الوفاة والأمراض المرتبطة بالكوارث الطبيعيّة والتلوُّث والأمراض المعدية، فضلاً عن انخفاض المحاصيل الزراعيّة وتراجع إنتاجية العمّال بسبب الحرارة المرتفعة، وشحّ موارد المياه وارتفاع تكاليف الطاقة، وانقراض أنواعٍ من الكائنات الحيّة وفقدان مواطنها الطبيعيّة. ويطلق الباحث سولومون شيانغ، الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، على هذه المخاطر “الموت بألف جرح”.
وتبعاً لذلك، يصعب تقدير الخسائر الإجمالية بدقّة. تشير تقديرات “موديز أناليتيكس” إلى أن العالم سيخسر 69 تريليون دولار جرّاء احترار بمقدار درجتَيْن مئويتَيْن بحلول عام 2100، فيما يتوقع الاقتصاديون أن ترتفع الكُلفة كلّما ازداد احترار الكوكب. وفي استطلاعٍ حديث، قدّر اقتصاديون أن تصل التكلفة إلى ما يعادل 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إذا ارتفعت الحرارة 3 درجات مئوية (وهو المسار الذي نسير عليه وفق السياسات الحالية)، وترتفع إلى 10 بالمئة إذا بلغ الارتفاع 5 درجات مئوية. وتشير أبحاثٌ أخرى إلى أنّ استمرار مستويات الاحترار الحالية سيؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد من الناتج العالمي الإجمالي بنسبةٍ تتراوح بين 7 بالمئة و23 بالمئة بحلول نهاية القرن، ما يعادل صدمةً اقتصادية على مستوى عدّة جائحاتٍ بحجم جائحة فيروس كورونا كلّ عام. وبعض الخبراء يخشى أن تكون هذه مجرد تقديراتٍ متحفِّظة.
تشير الدراسات أيضاً إلى أن تغيُّر المناخ قد خفّض بالفعل مداخيل أفقر الدول بما قد يصل إلى 30 بالمئة، وأسهم في تراجع الإنتاجية الزراعية العالمية بنسبة 21 بالمئة منذ عام 1961. كما تسبَّبت الأحوال الجوية المتطرّفة بخسائر فادحة؛ ففي الولايات المتحدة وحدها عام 2020، بلغت قيمة الأضرار الناجمة عن كوارث مرتبطة بالمناخ ــــ كالأعاصير والجفاف وحرائق الغابات ــــ نحو 100 مليار دولار، مقارنةً بمتوسط 18 مليار دولار سنوياً في ثمانينيات القرن العشرين.
نظراً لارتفاع تكلفة تجاهل الأزمة، يقول العديد من الاقتصاديين إن التصدي لتغيُّر المناخ هو الخيار الأقل تكلفةً. فهو أشبه بالمثل الشهير: درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج. ففي هذه الحالة، سيؤدي الحدّ من الاحتباس الحراري إلى تقليص الأضرار المستقبلية وعدم المساواة الناجمة عن تغيُّر المناخ، بالإضافة إلى تحقيق “منافع مشتركة” مثل حماية مليون إنسان سنوياً من الوفاة عبر تقليل تلوُّث الهواء، والحفاظ على حياة ملايين آخرين من خلال تحسين الأنظمة الغذائية لتصبح أكثر صحّةً وملاءمةً للمناخ. وتشير بعض الدراسات إلى أنّ بلوغ أهداف اتفاق باريس قد يؤدي إلى خلق الوظائف وتحفيز الناتج المحلي الإجمالي على المستوى العالمي. وطبعًا، السيطرة على تغيُّر المناخ ستجنّبنا أيضًا فقدان العديد من الأنواع الحيّة والنظم البيئية التي نعتمد عليها — أو التي يرى كثيرون أن لها قيمةً ذاتيةً تستوجب الحفاظ عليها.
التحدّي هو أنّ علينا خفض الانبعاثات في الحاضر لتلافي الأضرار في المستقبل، وهذا يستلزم استثماراتٍ كبرى على مدى العقود القليلة المقبلة. وكلّما تأخّرنا أكثر، دفعنا ثمناً أعلى للإيفاء بأهداف اتفاق باريس. فقد خلُص تحليلٌ حديثٌ إلى أن وصول الولايات المتحدة إلى “صفرٍ صافٍ” بحلول عام 2050 سيكلّفها ما يقرب من ضعفي التكلفة إذا انتظرت حتى عام 2030 بدل أن تتحرّك من الآن. لكن حتى إن أخفقنا في بلوغ هدف اتفاق باريس، تبقى الحُجّة الاقتصادية لمصلحة التحرُّك المناخي قائمة؛ إذ سيترتّب على كلّ ارتفاع إضافي في حرارة الكوكب مزيدٌ من الخسائر في المال والأرواح.
————————————————————————————–
هذا النص ترجمة كاملة لمقال “The Science of Climate Change Explained: Facts, Evidence and Proof” مع اختزال الصور المرفقة والروابط التشعبية. المقال منشور في صحيفة نيويورك تايمز في 19 نيسان 2021، قامت نور البرزاوي بترجمته باستخدام الذكاء الاصطناعي وأجرت مراجعة شخصية لضمان الدقة.