رسالة من طائر (عن رحلتي من آشور إلى الحرس الجمهوري)

بشار يوسف

إنّه يومي الأخير. يبدو أنَّ رحلتي في هذا العالم كانت أقصرَ ممّا توقّعت، ولن يُسمَح لي فيما تُرِكَ لي منها بأن أودّع أصدقائي برقصةٍ أخيرة في سماء هذه المدينة، التي أحببناها على الرغم من كلّ شيء. لذلك، سأستغلّ ساعاتي المتبقّية في أن أخبركم بقصّتي.

بدايةً سأعرّفكم بنفسي. يطلقون عليَّ اسم “أبيض”، وأعتقد أنّني اكتسبتُ هذا اللقب من لوني. أنحدرُ من عائلةٍ عريقة، عمرها آلاف السنين. حكتْ لي والدتي كيف كان أجدادنا يرافقون آلهة الآشوريين والكنعانيين، كذلك روت لي أنّ بعضهم انتقل إلى حضاراتٍ أخرى كاليونانية واليابانية. باختصار، كان هناك، على ما يبدو، ارتباطٌ وثيقٌ بين عائلتي وديانات البشر في أزمنةٍ مختلفة، ومع ذلك، لا أدري كيف انتهى بيَ الأمر لأن أولد في منزلٍ جماعيّ على أحد الأسطح، لكن لم يكن الأمر بهذا السوء أيضاً، فسيّدنا لم يبخل علينا يوماً بالطعام والشراب، وكان يوفّر لنا الحماية من أيّ خطرٍ خارجيّ.

في منزلنا ذاك، كان لكلٍّ منّا وظيفة، فبعضنا كان يتحمّل مسؤولية التزاوج والتكاثر، وتربية الصغار حتى يتمكنّوا من الطيران، في حين كان يتوجّب على المجموعة التي أنتمي إليها، والتي كانت تضمُّ الأقوى والأكثر خبرة، التحليق في مجموعات، ومحاولة اجتذاب الطيور الشاردة، ثمّ استدراجها إلى شِباك سيّدنا حالما نسمع صافرته ويبدأ في التلويح بعصى تعتليها قطعةٌ من القماش الغامق. في الفترة اللاحقة، كنّا نحاول دمج الوافد الجديد مع المجموعة، وبالطبع، وقبل كلّ شيء، كان السيّد يقصّ جناحيه لمنحنا وقتاً أطول.

لم تقتصر مهمّاتنا على ذلك، بل تعدّتها إلى ما هو أسمى، إذ كنّا، من خلال حركاتنا في الجوّ، نلقّن أبناء البشر دروساً عن الحريّة والانعتاق. أذكر أنّني سمعتُ سيّدنا يتحدّث مرةً كيف أنّهم اخترعوا الطائرات نتيجةً لمراقبتهم لنا ومحاولتهم تقليدنا. يمكنني الجزم بأن البشر أحبّونا كثيراً ومنحونا قدراً كبيراً من التقدير في ثقافاتهم، فتارةً كنتَ تجدنا في الأغنيات أو على الطوابع، وتارةً أخرى كانوا يستخدموننا كرموزٍ لقيمهم، أو حتّى أعمالهم التجارية، ووصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار فضلاتنا بشارة خير. بكلّ تأكيد، لم يأتِ ذلك من فراغ، فكنّا بدورنا نقدّم لهم خدماتٍ كثيرة، كنقل الرسائل قبل تطوّر الاتصالات، أو حتّى مشاركتهم وحدتهم.

أعتقد أنّي أسرفت في الحديث عن الماضي، ربّما كان ذلك هرباً من الواقع الراهن. لقد تغيّرت أحوالنا إلى حدّ بعيد، لكنّي لا أعلم حقاً ما كان سبب هذا التغيّر أو متى بدأ. إنّهم يتاجرون بنا الآن، وصرنا نباع ونشترى في الأسواق. علاوةً على ذلك، وفي بعض المناطق باتوا يستلذّون بطهينا. أهكذا يكافؤننا؟

لم يقف الأمر عند هذا الحدّ. قال لي صديقي إنّ بعض المجموعات البشرية باتت تستخدم كلمة “حمامة” كدلالة على العضو الذكريّ، وكلمة “عشّ” للتدليل على العضو الأنثويّ. في البداية لم أصدّق ما قاله، فكما أسلفت، كّنا فيما سبق نرافق آلهتهم، فما الخطأ الذي ارتكبناه حتّى تتمّ معاقبتنا بهذا الشكل؟ ثمّ لماذا يحاولون تغيير أسماء أعضائهم أو توريتها؟

أمرٌ آخر بات يثير حفيظتي مؤخّرّاً، إذ سمعتُ قبل نحو أسبوع أنّ أحد المربّين في الحي تعرّض لطعنة سكّين لأجل خلافٍ على حمامةٍ ضلّت طريقها إلى سطحٍ آخر، هي ذات الحمامة التي كانت إلى وقتٍ قريب ترمز للسلام. لم تكن هذه المرّة الأولى التي يزجّون بنا في حادثة عنف، فأحدهم اختار حمامةً تحملُ غصن زيتون لتكون شعاراً لحملةٍ عسكريّة أسفرت عن قتل وتهجير الآلاف، أتتخيّلون ذلك!

توريطنا في عنف البشر اتّخذ منحىً آخر، وهنا تحديداً تبدأ قصّتي، أو بالأحرى سوف تنتهي.

قبل كلّ شيء أودّ أن أؤكّد على أنّ سيّدي كان يثق بي كثيراً، فعلاوةً على عملي اليوميّ في جذب الحمام، كان يرسلني في مهمّات خارجيّة، ولم يساوره الشكّ في عودتي إلى المنزل. في إحدى المرّات، أخذونا في أقفاصٍ صغيرة بالكاد كانت تسمح لنا بالتنفّس فيها. حملَ كلُّ طفلٍ قفصاً. استغربتُ وقتئذٍ أنّ الأطفال كانوا يرتدون زيّاً عسكرياً. كانوا يقفون بشكل منتظم على شكل صندوقٍ مفتوح. في الوسط وقف رجلٌ بدا وكأنّهُ قائدهم، ردّد شعاراتٍ لم أفهم منها أكثر من أنّه وعد بأنّه سيفدي أحدهم بدمه. حينما استدار لينطلق، تم إطلاقنا من الأقفاص لتوديعه وتكريمه، وهنا كانت فرصتنا في العودة سريعاً إلى حيث ننتمي. كان ذلك يدرّ على سيّدنا مالاً وفيراً وسريعاً. خرجنا في مهمّات عديدة من هذا القبيل، وكنّا ننال ثناءً كبيراً على ذلك.

هذه المرّة، التي ستكون الأخيرة، مهمّتي مختلفة عن سابقاتها. في البداية رفض سيّدي الانخراط في هذا العمل، إلا أنّه اضطر في النهاية إلى الموافقة، لعلّ ذلك كان عطفاً على الرجل المسكين الذي لم يتوقّف عن التوسّل يوم أمس، أو ربّما خوفاً من المساءلة الأمنية فيما لو أذيع خبر رفضه. في كلّ الأحوال، وبعد نقاشاتٍ طويلة، طلب سيّدي من ابنه أن يضعني في صندوق صغير ويعطيني للرجل. كانت لحظات صعبة. أستطيع أن أجزم أن يد الصبي كانت ترتجف وهو ينتشلني من بين أصدقائي، كما أنّني رأيتُ دمعةً علقت بين رموشه.

أخذ الرجل الصندوق -بيتي الجديد المؤقّت- وانطلق مسرعاً ليطمئن عائلته بأنّ جهوده في إيجاد طائر أثمرت. فجرَ اليوم، وقبل أن يلفّ الضجيج الشوارع، حملني الابن الأكبر بعد أن ودّع والديه، وعاد إلى ما يطلقون عليه الخدمة الإلزامية، وإن لم أكن مخطئاً، فإنّه يقضيها في ما يدعى بالحرس الجمهوري، نعم، أظن أن هذا هو الاسم الذي تردّد إلى مسامعي مراراً. حسبما فهمت، طلبوا من كلّ الأفراد الجدد إحضار طيورٍ لأجل التدريب: سوف يقفون قبالةَ القائد، يمسك كل منهم طائراً، ثم سيقتلعون رؤسنا بأفواههم، بقضمةٍ واحدة، تأكيداً على جاهزيّتهم للفداء.

هكذا ستكون نهايتي، وليس كما تخيّلتها من قبل، لن أمرض تدريجياً قبل أن يتم التخلي عنّي، لن أضيعَ عن مجموعتي بسبب قذيفة عابرة، لن يصطادني أحدهم ليأكلني، لن تسرقني قطة الجيران، لا، لن يحدث لي أي مما حدث لعائلتي أو رفاقي.

ربّما هذا أيضاً جزء من تميّزي، ولأنني اعتدتُ ألا أخشى المواجهة، قرّرتُ، لمرّة وحيدة، أن أخرج عن المألوف، وأن أقوم أنا هذه المرّة بتقليد ما تفعلونه كبشرٍ في العادة، فإن كان لا بدّ لي من أن أفارق الحياة بهذه الطريقة، فيتوجّب أن أسبغ عليها طابعاً بطوليّاً، وأن أمنح موتي سبباً وجيهاً، لذا ها أنا ذا أعلنها، أنا أبيض، أقرّ بقبول نهايتي على طريقتكم كي يعيش أحد جنودكم، دون أن أدري كم روحاً أخرى ستساوي حياته.

إنّهم يردّدون الشعار الصباحي الآن. أخشى أنّ الوقت داهمني ولن أتمكّن من قول المزيد. سأستغلّ الدقائق الأخيرة في تنظيف ريشي كي أكون لائقاً.. وداعاً!

Scroll to Top