حرائق الغابات التي تلتهم قلوبنا


منذ شهر نيسان الماضي لم تتوقف الحرائق عن التهام غابات غرب البلاد، بداية من جبل المشهد العالي في ريف مصياف، مروراً بجبل التركمان في اللاذقية وغابات وريف حماة الغربي، وصولاً إلى حرائق هذا الأسبوع في جبال مصياف وفي المناطق الحراجية والزراعية في ريفي اللاذقية الشمالي وطرطوس.

تبدو هذه إحدى صور بلادنا في الفترة الآخيرة؛ صورة الحرائق تلتهمنا، مثلها مثل مثل صورة الأب المفجوع بولديه اللذين قتلا وهما يجمعان الغار، لأسباب طائفية.

تختزل هذان الصورتان شكل سوريا اليوم. أهالي مفجوعين بسبب أعمال قتل ونهب وخطف أساسها الأكبر طائفي، وبيئة تنتقم منّا بأسوأ الطرق؛ حرائق وجفاف وموسم زراعي سيء. 

في كل سنة تشتعل الحرائق في مناطق من غابات سوريا، حرائق موسميّة تبدأ في نهايات شهر أيار، وأدت إلى فقدان حوالي 17.4 ألف هكتار من الغطاء الشجري بين عامي 2011 و2023. لكن حرائق هذا العام كانت مختلفة، بدأت مبكراً جداً وامتدت على مساحات واسعة.

ظاهرة الحرائق ليست حكراً على سوريا، بل هي جزء من نمط بيئي عالمي، رأينا مثلها في اليونان وتركيا وإسبانيا مثلاً، وتعود أسبابها الرئيسية إلى الارتفاع التاريخي لدرجات الحرارة الناتج عن تغير المناخ، مما يجعل المناطق المتوسطية أكثر عرضة للحرائق المتزامنة.

تعددت واختلفت أسباب الحرائق في سوريا هذا العام، حسبما نعرف على الأقل، فالعوامل المناخية من جفاف وحرارة مرتفعة جعلت من النباتات الجافة وقوداً للحرائق، وقوة الرياح ساهمت بانتشار النيران، لكن النشاط البشري كان له أدوار رئيسية أيضاً، فمثلاً “التحريق الزراعي” (حرق بقايا المحاصيل في الحقول لإعداد الأرض للزراعة مرة أخرى)، والإشعال المتعمّد في بعض المناطق من قبل الأفراد أو الجماعات، وقطع الأشجار ونهب الغابات، وأحياناً انفجار مخلفات الحرب، زادت من أعداد الحرائق ومن انتشارها.

أدى ذلك بالمحصلة إلى تدهور الغطاء النباتي، ففُقدت الآلاف من الهكتارات من الغابات والأراضي الزراعية، مما أدى بدوره إلى هدم بعض مواطن التنوع الحيوي الهامة في سوريا، وانجراف التربة وازدياد الجفاف والعواصف الترابية، مثلما حدث في مناطق الجزيرة، وبالتحديد في محافظة الحسكة، في الشهر الفائت. 

هذا دون أن نذكر تلوّث الهواء وانخفاض قدرته على امتصاص الكربون، والآثار الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة الناتجة عن هذه الحرائق، ونقصان المياه الجوفية، إضافة إلى الآثار النفسية بالنسبة لسكان المناطق المجاورة، فضلًا عن الخسائر البشرية المباشرة، فقدْ فقدَ العشرات أرواحهم بسبب الحرائق (لم نعثر على رقم دقيق أثناء البحث عن المعلومات المتعلقة بالخسائر البشرية.). 

بحسب تقرير أعدّه الدكتور علي مصطفى سمعول وحصلت لحلاح على نسخة منه، فإنه مساحة الحريق الذي التهم غابات مصياف في ريف حماه (يبعد الحريق أقل من 2 كيلومتر عن المناطق السكنية) قد بلغت 1783 دونم (178.3 هكتار) وهو ما يفوق مساحة حرائق شهر نيسان في نفس المنطقة بحوالي أربعة أضعاف. ويعتبر هذا الحريق واحداً من 2217 حريقاً ضربت غابات سوريا في العام 2025 حتى الآن.

لا يُعرف سبب بدء الحريق حتى الآن، لكن بحسب تقرير د. سمعول فقد بدأت الحرائق يوم الجمعة الفائت 27 حزيران في جبل القاهر، وبسبب الرياح الجافة والشديدة ووعورة المنطقة وعدم قدرة وحدات الإطفاء على الوصول، انتشرت النيران في اتجاهات مختلفة. وبعد سيطرة نسبية على الحريق في ليل الجمعة والصباح الباكر من يوم السبت، هبت رياح شديدة ليل السبت أدت إلى تجدّد الحرائق وأصبحت خارج السيطرة. ورغم الجهود الجبارة لمحاولة إطفاء النيران استمرت الحرائق في الانتشار وامتدت لمساحات جديدة.

استمرت أعمال إطفاء الحريق حتى تمت السيطرة عليه بشكل كامل يوم الاثنين 30 حزيران، ووضعت المنطقة تحت المراقبة خوفاً من تجدّد الحرائق. 

شارك في إطفاء الحريق مجموعة كبيرة من المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية والفرق الأهلية والأفراد، استعملوا فيها أدوات بسيطة متوفرة، وحاربوا بكل ما استطاعوا للحفاظ على غاباتهم.

الحرائق ليست اختراعاً جديداً، وعمرها من عمر الأرض. هناك بعض الأدوات والطرق التي طورها البشر للسيطرة على الحرائق، وعلى سبيل مثلها لا حصرها: تكثيف الرصد المبكر جواً وبراً وخاصة في أوقات مثل التي نعيش فيها، حيث تمتلك كل دول العالم تقريباً طائرات مسيّرة (درون) وطائرات هيلكوبتر، إضافة إلى إغلاق المناطق الحرجيّة خلال أوقات الذروة (ارتفاع درجات الحرارة بشكل أعلى من المعدل الطبيعي). 

يُمكن أن تقوم حملات إعادة تشجير واستصلاح للأراضي الزراعية وتعزيز الاحتياطات البيئية والمحافظة على التربة، طبعاً بالإضافة إلى التوعية المستمرة بأهمية الغابات وبالمسائل البيئية بشكل عام.

لكن كلّ هذه الحلول مقترنة برغبة الدولة ومؤسساتها للقيام بها، إذ لا يُمكن تحميل الأهالي والمجتمعات المحليّة هذا العبء، لأنّ حماية الغابات وحماية الطبيعة والبيئة هي من واجبات المؤسسات الحكومية، سواء أكانت انتقالية أم دائمة. 

نذكر في النهاية قصة صغيرة من مدينة مصياف. على مدى الشهور الماضية كان بعض شبان المدينة ينظمون أنفسهم لحماية الغابات، فيخرجون في مجموعات إلى غابات مختلفة محيطة بالمدينة، لحمايتها من خطر الحريق، سواء إن كان السبب طبيعياً أو بشرياً. ما نريد قوله من هذه القصة إنّ الناس تعي أهمية بيئتها وما يحيط بها، وتفعل ما تستطيع لحماية هذه البيئة، لكن تبقى الكوارث الكبرى، مثل الحريق الأخير، أكبر من قدرة السكان، ويحتاج الأمر لإرادة حكومية ومؤسسات مختصة وأدوات متطورة للحلول دون وقوعها، أو على الأقل للحد من أضرارها. 

Scroll to Top