نور سليمان –
في خضمّ التحديات البيئية المتزايدة التي تواجه سوريا بعد عقد ونصف من الحرب، وفي ظل أزمة مناخية عالمية تتفاقم، يظهر تخصص “العلوم البيئية” كواحد من أكثر التخصصات ضرورة واستحقاقاً للدعم والاعتراف، وعلى الرغم من هذه الأهمية، ما يزال هذا التخصص يعاني من التهميش المؤسسي وضعف الحضور في مفاصل الدولة، في وقت يُفترض أن يكون جزءاً أساسياً من سياسات الإعمار وإدارة الموارد والتنمية المستدامة.
قسم العلوم البيئية في جامعة دمشق هو القسم الوحيد من نوعه في سوريا، أُنشئ عام 2007، وتخرجت أولى دفعاته عام 2011 مع بدايات الثورة السورية. تأسيس هذا القسم جاء كمبادرة علمية طموحة لإعداد كوادر قادرة على التعامل مع المشكلات البيئية التي تعاني منها البلاد، من تدهور الأراضي الزراعية، والتصحر، وانخفاض الموارد المائية، إلى التلوث البيئي المتزايد في المدن والمناطق الصناعية. إلا أن الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة، إلى جانب التركيز الحكومي على الجوانب الأمنية والعسكرية خلال سنوات الحرب، ساهمت في تهميش هذا التخصص وعدم منحه الاهتمام الذي يستحقه.
البرنامج الأكاديمي في قسم العلوم البيئية يُقدّم للطالب قاعدة معرفية شاملة تشمل علوم التربة، والجيولوجيا، والتنوع الحيوي، والأحياء الدقيقة، والمناخ، والاستشعار عن بعد، والطاقة، والجودة البيئية. هذا التنوع لا يهدف إلى تخريج مختص ضيق المجال، بل يُعدّ الطالب لفهم متكامل للنظام البيئي والعوامل المتشابكة التي تؤثر فيه، وهي مقاربة ضرورية للتعامل مع الأزمات البيئية المعقّدة. إلا أن هذا التكوين العلمي، ورغم قوّته النظرية، يصطدم بواقع قاسٍ بعد التخرج.
برنامج أكاديمي شامل يصطدم بالواقع
توضح ماري القرا (خريجة) لمجلة لحلاح أن قسم العلوم البيئية يجمع بين مجموعة من العلوم المختلفة من كليات متعددة، كالكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا، وتقول: “الهدف من هذا الدمج هو تخريج شخص قادر على الربط بين مكونات النظام البيئي كافة، وهذا ما يُعرف بالمقاربة الشمولية. نحن لا ندرس فقط طبيعة التربة أو جودة المياه أو مصادر التلوث، بل نتعلم كيف نفكر في العلاقة بين الإنسان والبيئة، والسياسات التي تنظم هذه العلاقة”.
تضيف القرا أن البرنامج يشمل مقررات متنوعة، من تحليل أثر الإنسان على البيئة، إلى إدارة الموارد الطبيعية، وصولاً إلى تقييم الأثر البيئي للمشاريع، وحتى قضايا إدارة النفايات والطاقات البديلة. وتؤكد ماري أن هذا الطيف الواسع من المعارف ضروري في بلد مثل سوريا، يعاني من تدهور بيئي واسع بعد سنوات من الحرب، لكنها تشدد أيضاً على أن التكوين النظري وحده لا يكفي ما لم يُقابل بفرص حقيقية للتطبيق العملي والانخراط في سوق العمل، وهو ما لم يتحقق لمعظم الخريجين.
تهميش إداري وغياب اعتراف رسمي
يعاني خريجو هذا القسم من ضعف حاد في فرص العمل، وغياب شبه تام للتوظيف الرسمي في مؤسسات الدولة. حتى اليوم، لا تُدرج شهادة العلوم البيئية في معظم مسابقات التوظيف الحكومية، ولا تتوفر وظائف مخصصة لهم ضمن وزارات البيئة أو الإدارة المحلية أو الطاقة، وهي جهات من المفترض أن تكون حاضنتهم الطبيعية. كثير من الخريجين، كما يروي طالب الماجستير في قسم العلوم البيئية وقائد فريق “الذهب الأخضر”، عارف العقلة، يجدون أنفسهم في مواقف غريبة حين يُفاجأ أصحاب العمل بوجود تخصص اسمه “علوم بيئية”، وغالباً ما يُرفض توظيفهم فقط لأن هذا الاسم غير مألوف في الأوساط الإدارية والمهنية.
تقول ماري: “الواقع صعب جداً. من النادر أن نجد فرصة عمل لها علاقة بتخصصنا، معظم المسابقات الحكومية لا تعترف بالشهادة أصلاً، حتى في وزارات يفترض بها أن تكون معنية بالبيئة. وعندما نحاول التقديم، يقال لنا إن التخصص غير مدرج، أو إننا غير مناسبين رغم تطابق المؤهلات العلمية”.
كما شير إلى أنها حاولت العمل في أكثر من جهة دون جدوى، واضطرت لاحقاً للتوجه نحو العمل الإداري العام. وتوضح: “اشتغلت في وظيفة مكتبية لا علاقة لها بتخصصي، فقط كي أعيش. وشعرت أن كل سنوات الدراسة ذهبت سدى. بعض زملائي سافر، وبعضهم يعمل في مجالات لا تمت للبيئة بصِلة”.
تؤكد ماري أن هذا التهميش يجعل الخريجين يعيشون حالة من الإحباط الدائم، خصوصًا عندما يُقابل تخصصهم بالريبة أو الاستغراب من قبل أصحاب العمل الذين لم يسمعوا به من قبل.
تجارب فردية ومبادرات ناشئة تصارع الواقع
في المقابل، يبدي طلاب القسم الحاليون تفاؤلاً حذراً خاصة في ظل إشارات على اهتمام متزايد بالبيئة في الخطابات الرسمية، ووجود مشاريع ناشئة تهتم بالطاقة المتجددة ومعالجة النفايات وإعادة التشجير. هذا التفاؤل يرتبط أيضًا بتجارب فردية ومبادرات طلابية مثل فريق “الذهب الأخضر”، الذي يقوده طلاب من القسم، ويعمل على نشر التوعية البيئية والمشاركة في حملات تشجير وتنظيف ومسح ميداني للأضرار البيئية. لكن هذه الجهود لا يمكن أن تؤتي ثمارها دون دعم رسمي واضح.
رغم كل شيء، لا تُخفي ماري أملها في تحسّن الأوضاع. تقول: “في السنوات الأخيرة صار في وعي أكبر شوي بقضايا البيئة. نسمع عن مشاريع للطاقة المتجددة، وعن خطط لإعادة التدوير. وفي منظمات صارت تطلب مختصين بيئيين، وإن كانت قليلة. بس هذا الشي بيخلينا نتمسك بالأمل”.
وتضيف: “بتمنى يصير في توظيف حقيقي لخريجي القسم ضمن الوزارات المختصة، ويكون في فرص حقيقية للاستفادة من معرفتنا. البلد بحاجة ماسة لإعادة ترميم البيئة، وبدون مختصين، مستحيل ننجح بهالمهمة”.
تختم ماري بالقول: “تخصصنا مش ترف، هو أساس لأي مشروع تنموي حقيقي. إذا ما تم الاعتراف فيه رسمياً، رح نضل نعيش بين الإحباط والبطالة”.
من جانبه، يروي حسان علي عزالدين، أحد أوائل خريجي قسم العلوم البيئية في جامعة دمشق، تجربته، مشيراً إلى تأسيس القسم عام 2007 بالشراكة مع جامعة مانشستر البريطانية: “كنت من طلاب الدفعة الأولى، ودخلناه بحماسة كبيرة وإيمان بأننا نلتحق بتخصص جديد ومتميز. ما ميّز القسم هو شموليته، حيث جمع بين مواد من كيمياء، فيزياء، بيولوجيا، وجيولوجيا. الهدف كان إعداد كوادر تواجه التحديات البيئية، من تلوث وتغير مناخي، ودمج البعد البيئي في مختلف القطاعات”.
لكن الواقع، كما يروي حسان.، كان صادماً بعد التخرج عام 2011: “في تلك الفترة توقفت المنح الدراسية، وأُغلقت فرص التوظيف في القطاع العام. حتى التعيين المخصص للمعيدين جُمِّد. شعرنا بصدمة، فالطموحات كانت عالية، لكن الواقع خيّب الآمال”.
رغم ذلك، استمر حسان في السعي حتى حصل على فرصة للعمل في هيئة الطاقة الذرية السورية عام 2015، ثم في القطاع الخاص بشركة WDRVM للطاقات المتجددة: “شاركنا في تركيب أول عنفتين ريحيات على طريق حمص – طرطوس. كانت تجربة جعلتني أشعر بأن ما درسناه يمكن أن يتحقق عملياً”.
ويختم حديثه بأمل متجدد: “رغم التحديات، نلمس وعياً جديداً بأهمية القضايا البيئية. آمل أن تكون المرحلة المقبلة بداية فعلية لبناء قطاع بيئي متكامل، وأن يكون لخريجي القسم دور محوري. ما زلت أحتفظ بنسخة البروشور الأول للقسم، وكلما قرأته، أتذكّر لماذا اخترت هذا الطريق”.
العلوم البيئية في سوريا ليس مجرد تخصص أكاديمي عابر، بل هو ضرورة ملحّة وركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية في بلد يعاني من أزمات بيئية متفاقمة. ورغم تهميشه المستمر ونقص فرص العمل الرسمية، يبقى أمل الخريجين والطلاب قائماً في تحسّن الواقع، خاصة مع تزايد الوعي البيئي والحاجة الملحّة إلى حلول علمية مستدامة.
إن دعم هذا التخصص، والاعتراف به رسمياً في مؤسسات الدولة، وتوفير فرص تدريبية ومهنية حقيقية، يشكل استثماراً في مستقبل سوريا البيئي والاجتماعي والاقتصادي. فبدون مختصين قادرين على قراءة الواقع البيئي وتحليل المشكلات ووضع الحلول، ستظل الجهود الإعمارية ناقصة، والبيئة عرضة لمزيد من التدهور. من هنا، يتحتم على الجهات الحكومية والأكاديمية والمجتمع المدني أن تتكاتف لدعم قسم العلوم البيئية، وتشجيع أبنائه على الإبداع والمساهمة في بناء سوريا المستقبل، التي تراعي بيئتها وتدير مواردها بحكمة ومسؤولية.