ليلى جروج –
دخلت الأسمدة الكيميائية على الزراعة السورية مع بداية القرن الماضي، حيث زاد المزارعون من استخدامها بغية تحسين الإنتاج مضاعفة كميته، خصوصاً بعد ارتفاع عدد السكان وفرض الحكومات على المزارعين كميات معينة من الإنتاج، لكن؛ على الرغم من اجتماع عوامل متعددة شجعت على انتشار الزراعتين الكيمائية والمختلطة، إلا أن هناك من حافظ على طرق الزراعة التقليدية عبر استخدام السماد والبذار العضويين، كما دخلت حديثاً المشاريع التي تشجع على إنتاج السماد العضوي، بغية إعادة استخدامه بشكل أكبر من الأسمدة الكيميائية.
ما هي الزراعة العضوية؟
غسان الماغوط، وهو مزارع من ريف طرطوس، يعتمد في أرضه على الزراعة العضوية، حيث يستخدم بالدرجة الأولى البذور المستخرجة من الأرض في نهاية كل موسم، ويدعم أرضه بالسماد العضوي. يحافظ الماغوط على هذه الطرق في الزراعة منذ أكثر من عشرين عاماً بهدف الحفاظ على صحة الأرض والإنسان. يقول لمجلة لحلاح: “لن أبيع خضروات وفواكه لا أقبل أنا بأكلها، فالأرض مصدر لغذائنا قبل أن تكون مصدراً للتجارة”.
كما يشير الماغوط إلى قِدم وأصالة هذه الطريقة: “اعتمدت المجتمعات الريفيّة على مخلّفات الحيوانات كأسمدة، ومخمّرات النباتات، وتوراثتها الأجيال قبل دخول الأسمدة الكيميائيّة”. أما اليوم؛ فتشهد الزراعة العضويّة حالة من محدودية الانتشار، بسبب الاعتماد على المبيدات والأسمدة لزيادة الإنتاج، ويلفت الماغوط إلى امتلاك سوريا مقومات ممتازة لاعتماد الزراعة العضوية، مثل التنوّع المناخيّ والتربة الخصبة، حيث دفع ارتفاع أسعار الأسمدة الكيميائية كثيراً من المزارعين إلى المداورة بين النوعين، أو الاعتماد الكامل على الأسمدة العضوية.
يضيف الماغوط أن الزراعة العضوية هي ما تعتمده الأرض من بذار وأسمدة حقيقيّة مستخرجة طبيعياً، مع الابتعاد عن الهرمونات أو الأسمدة الكيميائية، ما من شأنه أن يجنّب الإنسان والبيئة والتربة أضراراً جسيمة.
الأسمدة العضوية: خطوة قديمة بطرق حديثة
بدأ شفيع عجوب مشروعه الصغير منذ ما يقارب سنتين ونصف، بهدف خلق بيئة مناسبة لتجهيز السماد العضوي في مدينة سلمية بريف حماة، حيث يعتمد مشروع “فيرمي كومبوست” على فضلات الديدان كسماد عضوي. يشرح عجوب آلية استخراج السماد العضوي من الديدان، والتي تبدأ بوضع الديدان داخل أحواض تسمى بالبيئة الحاضنة، ويردف: “يمكن استخدام أي وعاء سواء أكان هيكل براد، أو حوض، أو حتى الأحواض الخاصة تصلح لتكون بيئة حاضنة للديدان”، ثم يتم تغذيتها بالفضلات العضوية بكافة أنواعها، سواء أكانت روث الحيوانات أم أوراق الأشجار.
يسلّط عجوب الضوء على أهمية سماد الديدان في التخلّص الصحيّ من مخلفات المطابخ من المنازل أو المطاعم، فبدلاً من تكويمها وما يتبعه من أمراض وروائح كريهة، يتم استخدامها كغذاء للديدان لصنع سماد الفيرمي كومبوست، كما يشير إلى أن 80% من الفضلات التي تخرج من المنازل يتم استهلاكها لدعم سماد الفيرمي كومبوست، وهو أمر يترك أثراً بيئياً واضحاً من خلال تخفيف الأعباء الناجمة عن تراكم النفايات العضوية.
أما عن أسباب اتجاه المزارعين لهذه المشاريع، فيقول: “يعود الأمر إلى سببين، الأول أن المزارع صنع السماد بيده، وبالتالي يخفف من شراء السماد ويخفف من النفايات في محيطه، أما الثاني فيتعلق بالإنتاج الذي يخرج عنها، فهو عالي الجودة لأنه خالٍ من الكيماويات”.
يوّضح عجوب أن أحد أهم الخواص العامة لأسمدة فيرمي كومبوست أنها لا تنفث أي غازات ضمن العمليات العضوية والحيوية، حيث يصف عملها في التربة بأنه عملية تدوير طبيعية للنفايات، وهي مغذٍّ بروتيني للحيوانات، خاصةً الأسماك والطيور، عدا عن كونها مفيدة ومغذية للتربة، ومنتج بجودة عالية، وغنية بالإنزيمات والبكتيريا النافعة، وتحسّن من جودة الطعم. أما عن السبب الرئيس لانتشارها مؤخراً، فيقول عجوب: “تم رفض المنتجات الغذائية السورية المعدّة للتصدير العام الماضي بنسبة 75%، بسبب زيادة المواد الكيمائية فيها خصوصاً النترنيت نتيجة الاستخدام العشوائي لليوريا”.
يأسف عجوب لما آلت إليه حال الزراعة في سوريا اليوم، إذ بات واضحاً أثر استخدام الكيماويات على الناس والأراضي خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث ازدادت الأمراض المعوية، وأمراض القولون العصبي، ويضيف: ” كانت تعيش الديدان ضمن الأراضي بشكل طبيعي، لكننا دمرناها، ربما ستعود هذه الديدان إلى أراضينا في حال خلقنا لها بيئة مناسبة مجدداً”.
التحديات التي تعيق انتشار الزراعة العضوية
بات من الصعب تجاهل التأثيرات التي يتركها التغير المناخي ونتائجه على الفلاح السوري. يرى غسان الماغوط أن من أبرز الصعوبات التي يواجهها كمزارع اليوم هي آثار التغير المناخي، مثل الجفاف، وظهور آفات وأمراض خارج المواسم الطبيعية، والتي يصعب السيطرة عليها دون استخدام المبيدات الكيميائية، ويؤكد أن “قلة الأمطار تؤثّر على مختلف أنواع الزراعات، الكيماوية منها والعضوية”.
كذلك فإن قلّة الدعم الحكومي، وضعف الإرشاد الزراعي، يترك المزارعين يتصرفون مع أراضيهم وفق الموروث الشعبي الذي قد لا يتناسب مع الأحوال المناخيّة الحاليّة، ويضيف الماغوط أن الزراعة العضوية تستهلك جهداً وتتطلب متابعة من المزارع، وعلى الجهة المقابلة لا يوجد مردود خاص للمنتجات العضويّة، فالمنتجات كلها تُباع بأسعار متقاربة، ما يشكّل عبئاً مادياً إضافياً على المزارع، على الأخص في بداية العمل قبل أن تصل التربة إلى حالة من التوازن.
من جهتها تتوسّع المهندسة الزراعية ريا ديب في تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها المزارع السوري في العودة إلى الزراعة العضويّة اليوم، حيث تبيّن ديب، التي تشغل منصب مستشارة بيئية في هولندا، أن التحوّل من الزراعة التقليديّة إلى العضويّة لا يتمّ بشكل فوريّ، بل يتطلّب فترة انتقالية قد تصل إلى ثلاث سنوات، وخلال هذه المدة يتوّجب على المزارع التوّقف عن استخدام المدخلات الكيميائية مع الاستمرار في الإنتاج، مما يعرّضه لخسارة مؤقتة في الإنتاجية والدخل، كما تشير إلى أن الحصول على شهادة عضويّة يحتاج إلى تكاليف إضافية (رسوم تفتيش ومراقبة)، إضافة إلى كلفة شراء بدائل عضوية ذات سعر أعلى، وهذا العبء الماليّ يجعل كثيراً من المزارعين مترددين، خصوصاً في ظل محدودية الدعم المادي.
تردف ديب أن عدم توافر مستلزمات الإنتاج العضوي بجودة وكميات كافية يشكّل عائقاً أمام الانتقال إلى الزراعة العضوية، “فالسماد العضوي المعتمد أو المبيدات الحيوية ما زالت نادرة، وفي حال توافرت تكون بأسعار مرتفعة نسبياً، ما يحدّ من قدرة المزارعين على التطبيق السليم للمعايير الدولية للزراعة العضوية”.
التعافي من الكيماويات يتطلّب جهوداً مشتركة
يشير غسان الماغوط إلى أهمية الزراعة العضوية في خلق فرص واعدة لإنعاش الزراعة السورية، لكن التحديات كبيرة جداً، وأهمها الجفاف، مما يتطلب دعماً من الحكومات، وتعاوناً من المزارعين، مع تركيز المنظمات على البرامج الزراعية ومتابعتها ووضع مراقبين في كل منطقة يتم فيها تنفيذ المشاريع الزراعية، ويضيف: “من الجيد تقديم دورات تدريب وتأهيل للفلاحين حول تقنيات وأساليب الزراعة العضوية، وإنشاء أسواق محلية مخصصة للمنتجات العضوية، ما سيمنح المزارع فرصة لبيع منتجاته”.
يتطرّق الماغوط إلى توّجه بعض المنظمات العاملة على الأراضي السورية نحو دعم المشاريع التي تُعنى بالسماد والزراعة العضويين، مع تأمين شراء المنتجات العضوية بأسعار قد تشجع المزارعين في المستقبل على العودة إلى الزراعة العضوية في حال استمرت هذه المشاريع بدعمهم.
من جهتها ترى ريا ديب أن الزراعة العضوية في سوريا تمثّل فرصةً حقيقيةً لتحقيق تنمية زراعية مستدامة، لكنها محاطة بمعيقات مالية وفنية وسوقية، تضيف: “النجاح يتطلب تضافر جهود الدولة، المنظمات، والقطاع الخاص لتوفير الدعم الفني والمالي والتسويقي، فالزراعة العضوية لا يمكن أن تنجح بالجهود الفردية فقط، بل تحتاج إلى بيئة داعمة على مستوى السياسات والتسويق”.
صدر قانون الإنتاج العضوي رقم 12 لعام 2012،، لكن تطبيقه ما يزال محدوداً ويحتاج إلى تعزيز، وترى ديب أن تقسيم الأدوار سيكون مناسباً لنجاح الزراعة العضوية، فبينما تقوم المنظمات غير الحكومية بتقديم تدريبات عمليّة ودعم تأسيس التعاونيات التي تقلّل تكاليف الشهادات وتساعد في التسويق الجماعي، يعمل القطاع الخاص كشريك مهم في بناء سلسلة متكاملة من العمل، حيث يمكن إنتاج السماد العضوي أو تسويق المنتجات العضوية، لدعم هذه الزراعة.
هنا تنوّه ديب إلى العلاقة التي تربط الزراعة العضوية بالاستدامة، فعلى الجانب البيئيّ تقلل الزراعة العضوية من التلوّث، وتعزز خصوبة التربة والتنوّع البيولوجي، وتزيد قدرة النظم الزراعية على التكيف مع الجفاف والتغير المناخي، أما اقتصادياً فالاستقرار الإنتاجي وتحسّن جودة المحاصيل يفتحان أسواقاً جديدة ويزيدان من العائد على المدى الطويل، وتسهم على الجانب الاجتماعيّ في زيادة وعي المستهلك بالغذاء الصحيّ ما قد يسهم في تعزيز الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعيّة.



