دلير يوسف –
اعتذرنا في الأسبوع الفائت عن نشر أي مواد جديدة في لحلاح، حدادًا على أرواح أهلنا وأحبتنا في مدن وبلدات الساحل، الذي عاشوا أياماً قاسية، يواجهون فيها المجازر والانتقامات والقتل الطائفي، وكذلك على أرواح عناصر الأمن العام الذين قضوا غدراً في كمين لفلول النظام، وقلنا إنّنا نتمنى الخير والسلام لسوريا وللسوريين والسوريات.
لم يتحسن الحال في هذا الأسبوع. قُتل بعض الناس في كوباني بسبب قصف تركي، وقُتل آخرون في درعا بسبب قصف إسرائيلي، واستمر القتل في مناطق الساحل وإن خفت الوتيرة.
كل هذا الدم المنتشر على طول البلاد وعرضها، يجعلنا نتساءل في كلّ يوم عن قيمة ما نفعل وعن معناه. لماذا نشتغل في الصحافة البيئية؟ ما معنى أن نحكي عن الأشجار والبذور ونقص المياه والطاقة والجفاف والحرائق في أوقات يغطي فيها السلاح والدم جغرافية سوريا من أقصاها إلى أقصاها؟
لا أجوبة واضحة عندنا.
سألنا هذه الأسئلة ضمن فريق العمل وكانت هذه عينة من الأجوبة:
- مواضيعنا في هذا الأسبوع تدور حول تراكم النفايات في دير الزور (بسبب الحرب)، وحول تلوث نهر بردى (بسبب الفساد)، وحول حرائق الساحل (بسبب الحرب والإهمال)، وحول أفق الطاقة الشمسية في سوريا (بسبب الوضع الاقتصادي الناجم عن الحرب)، وعن تأثير التغيرات المناخية على النساء خلال فترات الحرب. هذا يعني أنّنا لم نبتعد كثيراً عن الموت والحرب في بلادنا.
- أعتقد أنّ من المهم الحديث عن المواضيع البيئية، كي يتم الانتباه للأخطار التي تواجهنا جميعاً. حرق الغابات سيؤثر لاحقاً على التربة بشكل كبير. والتربة تحتاج إلى إعادة تهيئة لتصير قادرة على الإنتاج من جديد. ولدينا أيضاً التغيرات المناخية ووضع الأحراج التي سنرى نتائجها لاحقاً. ربّما حين نتحدث عن هذه القصص البيئية يستشعر أحدهم ما ينتظرنا.
- أشعر أحياناً أنّ الكتابة عن البيئة ومشاكلها شيء عبثي، وانفصال عن الواقع وخاصة في أوقات يحتلها القتل والعنف. لكن في الوقت نفسه، هناك جزء مني يشعر بأهمية الموضوع. يهمنى أن أعيش في مكان أفضل (الأفضل) رغم صعوبة هذا الشيء. وإن استطعت أن أفعل شيئاً مهما صغر سأقوم به، حتى لو قوبلت بسخرية.
- في المرة الأخيرة التي كنتُ فيها في مدينة حماة، من أجل إعداد تقرير عن نهر العاصي، أحسستُ بأنّني أبحث عن الحياة، في بلاد تكون الحياة فيها مصادفة والموت هو الحالة الطبيعية. لكن شخصياً هذا ما يجعلني أكمل رحلة بحث مطولة ومستمرة عن الهوية. صرتُ أصادف أشخاصاً يشبهونني في القيم، وصرتُ أعرف أنّ السلام يبدأ عند المسالمين من عدم رميهم للقمامة في الشارع.
أما بالنسبة إلي، أنا كاتب هذه السطور، فإنّ حياتي تنوس بين شيئين، أولهما البحث عن المعنى في فعل ما أحبّ، وثانيهما هو الفعل بحد ذاته. درست العلوم البيئية وتطوعت في جمعيات تعنى بالشؤون البيئية، وكتبت مقالات عن أهمية الموضوع. أحبّ المواضيع المتعلقة بالأرض، وبالحفاظ على الأرض، وبأنّنا كبشر جزء من حياة كبيرة معقدة فيها الكثير من الكائنات الحية وغير الحيّة التي تتفاعل مع بعضها بشكل رائع. أتمتع بجمال الطبيعة وأندهش في كلّ مرة أرى فيها ثلجاً يهجل أو شلالاً ينزل من مكان شاهق أو بحراً يمتد إلى ما لا نهاية أو صحراءً فيها رمال أكثر من نجوم السماء. تسحرني الطبيعة، وأسعى بكل ما أملك، وإن كان ما أملك قليلُ، أن تكون الأرض مكاناً صالحاً للعيش لنا ولأجيال كثيرة لاحقة من بعدنا، هكذا حتى تنطفئ الشمس.
لكنّني ابن سوريا، ابن هذا الدم المنتشر في البلاد. ابن هذه المجازر وهذه الأشلاء وأولئك المغيبين في السجون أو في المقابر الجماعية. ابن هذه البلاد الحزينة.
أفكر بأنّ الأمر مرتبط، لا يُمكن أن نكتب عن الحرائق في الغابات دون أن نحكي عن الفساد، لا يُمكن أن نحكي عن المياه الجوفية دون أن نحكي عن استخدام المياه كأداة حرب، لا يُمكن أن نحكي العمران وتخطيط المدن دون أن نحكي عن التطهير العرقي. لا يمكن أن نحكي عن البيئة وأن نكون منفصلين عن الواقع.
كلّ الأشياء مرتبطة، وهنا تكمن أهميّة الصحافة البيئية. الإنسان جزء من البيئة يتفاعل معها سلباً وإيجاباً. لا معنى لبيئة نظيفة دون إنسان حرّ، ولا معنى لإنسان حرّ في بيئة مدمّرة.
ربّما كانت هذه إجابتنا لسؤال ما معنى أن نشتغل في الصحافة البيئية في أوقات الحرب والموت: الحلم بمستقبل أفضل والعمل من أجله؛ مستقبل نعيش فيه بحريّة وكرامة وعدالة في بيئية نظيفة طيبة تمنحنا عطاياها ونمنحها حبنا وعملنا.