لدى الجنوب العالمي القدرة على فرض تحرك مناخي جذري

مادة مترجمة – جيسون هيكل  – ترجمة: نور البرزاوي –

هذا النص ترجمة كاملة لمقال بعنوان “The Global South has the power to force radical climate action” المنشور في موقع الجزيرة الإنجليزية في 29 حزيران 2022. 

خلال السنوات القليلة الماضية أصبح واضحاً أنّ المفاوضات الدولية حول المناخ تفشل في معالجة أزمة المناخ. فالسياسات الحالية تضعنا على مسار ارتفاع بمقدار 3.2 درجة مئوية هذا القرن –أي في عمر الجيل الحاضر. ويؤكّد العلماء أنّ مستقبلاً كهذا سيحمل معاناة وتشريدًا شديدين.

إنّ الاقتصادات الغربية –والشركات والنُخَب التي تهيمن عليها– مسؤولة بشكل ساحق عن هذه الأزمة.  فقد ساهمت بأكثر من 90% من الانبعاثات الفائضة التي تدفع نحو انهيار مناخي. وفي المقابل، تقع التأثيرات الأشدّ على بلدان الجنوب العالمي التي تعاني بالفعل وطأة موجات الحرّ والجفاف والفيضانات وفشل المحاصيل وتشريد السكان. إنّ أزمة المناخ تجري على خطوط استعمارية.

يدرك القادة السياسيون والحركات الاجتماعية في الجنوب العالمي هذه الحقائق. وعلى مدى سنوات، ظلّوا يطالبون باتخاذ إجراءات أكثر جرأة من حكومات الشمال العالمي، التي لا تزال انبعاثات الفرد فيها أعلى بكثير من بقية العالم. لكن مناشداتهم لا تجد آذاناً صاغية؛ إذ ليست أيّ من الحكومات الغربية على مسار يحقّق حصّتها العادلة من أهداف اتفاق باريس. لماذا؟ لأنّ الخفض السريع بالقدر الكافي للانبعاثات يتطلّب من الاقتصادات الغنيّة أن تقلّص استهلاكها للطاقة جذريّاً.

ولإدارة هذا الانحدار في استهلاك الطاقة، سيتعيّن على الدول الغنيّة أن تتخلّى عن النمو الرأسمالي هدفاً لها، وأن تتحوّل إلى نظام ما بعد النمو وما بعد الرأسمالية، حيث يُنظَّم الإنتاج –واستخدام الطاقة– بما يلبّي احتياجات البشر لا تراكم الثروة لدى النُخَب.

ومن غير المرجَّح أن تقوم الحكومات الغربية بذلك طوعاً. قد نأمل أن يدفعها الحراك من أجل المناخ، لكن الحراك نفسه منقسم حول هذه المسألة، إذ يُصرّ فصيل كبير منه على استمرار النمو كما هو. فلماذا ينتظر الجنوب معجزة؟ ولماذا يغامر بكلّ شيء بالاعتماد على حسن نيّة دول لم تُعر قطّ اهتماماً لمصالح الجنوب ورفاه شعوبه؟

هناك طريق آخر. تمتلك حكومات الجنوب القدرة على فرض الأمر الواقع وتغيير مجرى التاريخ.

والأمر المحوريّ الذي يجب إدراكه هو أنّ اقتصادات الغرب –ونموّها– تعتمد اعتماداً مطلقاً على اليد العاملة والموارد من الجنوب. كان هذا واضحاً خلال الحقبة الاستعمارية، ولا يزال صحيحاً اليوم. فمئات الملايين من الأفدنة من الأراضي، وعشرات الآلاف من المصانع، وجيوشاً من العمّال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مندمجة في سلاسل السلع التي تخدم الاحتكارات الغربية، وتزوّدها بكلّ شيء من زيت النخيل إلى النفط، ومن الرقائق الإلكترونية إلى الهواتف الذكية.

والحصيلة هي تدفّق صافٍ ضخم للموارد خارج الجنوب، يعادل 25% من الناتج المحلي الإجمالي الغربي. وكان بالإمكان توظيف هذه القدرات لتلبية الاحتياجات المحلية من سكن وغذاء ورعاية صحية، لكنّها تُستحوَذ عليها بدلًا من ذلك رؤوس الأموال الغربية.

إنّه تشويهٌ للعدالة، لكنّه في الوقت نفسه ورقةُ ضغط. ففي أيّ لحظة يمكن للجنوب أن يوقف هذا التدفّق من الثروة؛ إذ يملك القدرة على ذلك. وقد فعله من قبل، في العقود التي تلت إنهاء الاستعمار، حين اعتمدت بعض الحكومات الراديكاليّة والتقدّميّة سياساتٍ لاستعادة السيادة الاقتصاديّة. ففرضت الرسوم الجمركيّة وضوابط رأس المال لحماية أسواقها، وأمّمت الموارد الرئيسيّة، وحسّنت حقوق العمّال وأجورهم، وأنشأت خدمات عامّة وطوّرت صناعات وطنيّة.

وباختصار، حشدت تلك الدول مواردها وطاقات عملها لتلبية احتياجاتها الخاصّة، ووسَّعت تجارتها مع بلدان ما بعد الاستعمار الأخرى. وقد جرى تكريس هذه الأفكار في “إعلان كوكويوك” لعام 1974 وطوّرها مفكّرون من أمثال سمير أمين وتوماس سانكارا.

نجحت حركة السيادة في الجنوب إلى درجةٍ باتت تُهدد الرأسماليّة الغربيّة بجدّية، إذ بدأت تغلق أمامها الوصول إلى العمالة الرخيصة والموارد. فردّت القوى الغربيّة أوّلاً بسلسلة انقلابات على قادة مناهضين للاستعمار – مصدّق في إيران، وسوكارنو في إندونيسيا، وأربينز في غواتيمالا، ولومومبا في جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة، وأليندي في تشيلي – ثمّ استغلّت قوّتها كدائنة لفرض برامج التكيّف الهيكلي التي قَوَّضت الإصلاحات الاقتصاديّة.

والآن، بعد نصف قرن، أصبح الجنوب في موقعٍ يمكّنه –بل يجدر به– أن يخوض هذه الثورة مرّة أخرى. يمكنه ذلك بالسعي إلى إصلاح زراعي وسيادة غذائيّة، وبناء قدرات للطاقة المتجدّدة، وتحويل الإنتاج الصناعي إلى تلبية الاحتياجات المحليّة. من شأن هذه الخطوات أن تمكّن دول الجنوب من استعادة السيطرة على أراضيها ومواردها، وتخفّض اعتمادها بصورة حادّة على الواردات والعملات الغربيّة.

يمكن للحكومات أن تحشد مثل هذا المشروع إلى حدّ كبير عبر استغلال الحيّز السياسي المتاح لأي مُصَدِّر للعملة. وكما أشار كينز، فإنّ أي شيء يمكن شراؤه أو إنتاجه داخل الاقتصاد الوطني يمكن تمويله بالعملة الوطنيّة. تمتلك بلدان الجنوب العالمي وفرة في العمالة والموارد؛ لكنّها كثيراً ما تُمنَع من تسخير هذه الطاقات لتنميتها الخاصّة بفعل الدائنين الأجانب الذين يفرضون قيوداً صارمة على الإنفاق العام. وفي هذه الحالات قد تضطر الحكومات إلى التخلّف عن سداد الديون الخارجيّة.

إنّ اتخاذ خطوات نحو السيادة الاقتصاديّة وفكّ الارتباط تدريجيّاً عن رأس المال الغربي سيُحدث آثاراً بعيدة المدى في الاقتصاد العالمي؛ إذ سيُقيِّد وصول الغرب إلى عمالة وموارد الجنوب، ويُرغمه على التحوّل إلى نظام ما بعد النمو. كما سيجبر الحكومات الغربيّة على الجلوس إلى طاولة التفاوض. عندئذٍ سيكون الجنوب في موقفٍ يُمكّنه من الدفع نحو سياساتٍ مناخيّة أكثر جذرية –بما يتوافق مع مطالبه الدائمة بحصر الاحترار في 1.5 درجة مئويّة– بما في ذلك تعويضات عن الخسائر والأضرار.

تخشى الحكومات اتخاذ هذه الخطوات لأنّها تعلم أنّ رأس المال الغربي سيعاقبها عليها. لكن الانتقال نحو السيادة الاقتصاديّة سيحدّ بصورةٍ حاسمةٍ من هذه القدرة على الابتزاز. والعمل الجماعيّ ضروريّ هنا أيضاً؛ فكما شدّد قادةُ الكفاح ضدّ الاستعمار في القرن العشرين: نحن أقوى معاً ممّا نحن عليه فرادى. وإذا اتّحدت حكومات الجنوب واتّخذت هذه الخطوات ككتلةٍ واحدة، فسيكون من الصعب على أيّ جهةٍ أن توقفها. فأزمة المناخ تجري على خطوط استعمارية، وتستلزم حركةً مناهضةً للاستعمار ردّاً عليها.

Scroll to Top