نور سليمان –
تشهد سوريا خلال السنوات الأخيرة تصاعداً مقلقاً في ظاهرة قتل الحيوانات الشاردة، وعلى وجه الخصوص الكلاب والقطط، ما أثار موجة استياء واسعة في أوساط الناشطين والمدافعين عن حقوق الحيوان، وذلك بعد أن تكررت حوادث القتل في عدد من المناطق، حيث يتم إطلاق النار على الكلاب أو استخدام وسائل “قاسية” للتخلص منها. ورغم تبرير هذه الممارسات أحياناً بأنها تهدف إلى حماية السكان من الأمراض أو الهجمات، إلا أن غياب حلول إنسانية فعّالة يسلّط الضوء على فشل السياسات الحالية، ويجعل من هذه الأفعال محل جدل وانتقاد متزايد.
ردود الفعل المجتمعية: الغضب يتفجّر على وسائل التواصل
أثارت صور ومقاطع مصورة لعمليات قتل الكلاب الضالة بالرصاص في دمشق وريفها موجة من الغضب والاستنكار على وسائل التواصل الاجتماعي، ووصف المدافعون عن حقوق الحيوان هذه الممارسات بأنها “وحشية” و”مخالفة لكل القوانين والأعراف”.
تقول الناشطة والصحفية، جولي بيطار: “تُبرز عملية الإبادة الممنهجة للحيوانات في سوريا أكثر من أي وقتٍ مضى شُحّ الرحمة في نفوسنا. صحيح أن الحرب شوّهت ملامح إنسانيّتنا وقلَّصت من مدى تعاطفنا، لكن هل يبرر ذلك تنكيلنا بكائناتٍ بريئة عاجزة عن الدفاع عن نفسها؟ رعايتي لحيوان أليف تجعلني أكثر تعاطفاً وتأثراً، وتذكرني دوماً بأن معاملتنا لأضعف المخلوقات مرآة صادقة تقيس عمق إنسانيتنا وتختبر صلاحية ضمائرنا”.
وتضيف بيطار: “تظهر اليوم في شوارع سوريا صور مروّعة لعملية الإبادة الممنهجة التي تستهدف الحيوانات بلا رحمة، فتُركن الطعوم المسمومة في الطرقات، وتُطلَق الرصاصات على كلاب وقطط لا حولَ لها ولا قوّة، بل ويُقتلون ويُعذَّبون ويُغتَصَبون أيضًا! إنَّ إنسانيتنا تُقاس بكرامةِ صمتِ الضعفاء ووهنِ أجسادهم، فلا قيمَ للحديث عن الحرية والكرامة ما لم نرفقها بالرحمة والعطف تجاه كلِّ كائنٍ حيٍّ. يجبُ علينا -أصحاب الضمائر الحية- أن نرفع الصوت عالياً لنوقف هذا العبث البائس، وأن نعلّم أجيال الغد أن الرحمة أسمى من أيِّ سلاح، وأنّ حقَّ الحياة لا يُمنحُ بمكرمة منّا، بل بالمحبة والإنسانية أولاً وأخيراً”.
شهادات من الداخل: جمعية سارة للإنقاذ نموذجاً
تشير سارة أورفلي، مديرة جمعية سارا للإنقاذ، أنه لا توجد بيانات أو إحصائيات دقيقة بسبب تعذّر الوصول في معظم الأحيان إلى المناطق التي تشهد حملات قتل عشوائي للحيوانات “وغالباً ما كانت تلك المناطق تخضع لتشديد أمني من قبل النظام السابق ويتم منع الوصول إليها بسبب الحواجز الأمنية”، ووتضيف: “نعمل بالتنسيق مع العديد من المنظمات المحلية والدولية لتنفيذ حملات توعية تستهدف الجيل الناشئ لتوضيح مفهوم الرحمة والرفق بكل المخلوقات. لكن العقوبات التي كانت مفروضة سابقاً على سوريا حالت دون توسيع التنسيق والدعم من قبل منظمات دولية مهمة، نستطيع من خلالها أن نترك أثراً ملموساً وإيجابياً في الواقع، بيد أننا في طور التواصل بعد قرار رفع العقوبات لزيادة التمكين”.
حول الإجراءات التي يتم اتخاذها في الجمعية للحد من ظاهرة قتل الحيوانات الشاردة، تقول سارة: “قمنا بتوجيه خطاب رسمي إلى الجهات المختصة، ممثلة بالوزارات ومحافظي دمشق وريف دمشق، موضحين فيه النقاط الأساسية. وأرفقنا مع الخطابات دراسة تفصيلية أكاديمية أعدها مختصون، تضمنت حلولاً عملية قابلة للتنفيذ، كما نواصل بشكل يومي جمع الحيوانات المشردة والمصابة، لمعالجتها داخل الملجأ وتوفير الغذاء والرعاية الطبية المناسبة لها”.
تؤكد أورفلي على وجود صعوبات بالغة في التعاون مع الجهات الرسمية، رغم ترحيبهم بالجمعية ومحاولاتهم الحثيثة لتذليل الصعاب. أولى هذه الصعاب هي “عدم وجود دعم مادي ولوجستي كافٍ لإطلاق برنامج تعقيم وتطعيم وترميز شامل لجميع الحيوانات، كون سوريا محررة حديثاً وتعاني من صعوبات اقتصادية شديدة”، وتردف في هذا السياق: “يمكن للمواطنين والمتطوعين دعم جهودنا في الجمعية بعدة طرق، سواء من خلال دعم الجمعية بالتبرعات الرمزية، أو التعاون معنا للإبلاغ عن أي انتهاكات تحصل بحق الحيوانات المشردة، كما يمكنهم التطوع لمساعدتنا في متابعة الحالات المريضة والمصابة، وتثقيف أطفالهم حول الرفق بالحيوانات، وتبني الحيوانات من الجمعية بدلاً من شرائها”.


في ختام حديثها لمجلة لحلاح، أعربت أورفلي عن أملها في إصدار قانون تنفيذي يُجرّم التعدّي على الحيوانات في عموم سوريا، بما يضمن حمايتها وحقوقها، لافتة إلى أنهم ما زالوا يواجهون كثيراً من “التصرفات العشوائية تجاه ملف الحيوانات المشرّدة”، في ظل الاعتماد على قوانين قديمة، يعود بعضها إلى أكثر من 45 عاماً “دون أي تطوير أو استحداث يواكب التقدم الحضاري ويعكس قيم الرحمة والمسؤولية المجتمعية”.
حملات ومبادرات: صوت من أجل الحياة
وسط هذه الانتهاكات، ظهرت حملات شعبية مثل “أوقفوا قتل الحيوانات الأليفة”، التي تهدف إلى الضغط على السلطات من أجل تبني حلول إنسانية، ودعا ناشطون في بعض المدن، مثل دمشق وريفها وطرطوس، لاعتصام سلمي احتجاجاً على ما اعتبروه “جرائم ممنهجة” تُرتكب بحق الحيوانات، وطالب المحتجون بالوقف الفوري لعمليات القتل المنظم التي تطال كائنات لا تملك وسيلة للدفاع عن نفسها، وبمحاسبة الجهات التي تنفذ هذه الأفعال أو تسهّلها. واعتبروا أن ما يجري يُعد خرقاً صارخاً لمبادئ الرحمة، وانحداراً أخلاقياً لا يجوز السكوت عنه.
كما شددت دعوات التظاهر على أن الصمت الشعبي لم يعد مقبولاً، وأن التحرك السلمي هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لوقف هذا العنف الذي يستهدف الأضعف دون رادع، واقترح الناشطون حلولاً بديلة عن القتل، على رأسها تعميم برامج التعقيم بدعم حكومي، ما من شأنه الحد من تكاثر الحيوانات بطريقة منظمة، بعيدًا عن الأساليب العنيفة.


كذلك دعوا إلى دعم الملاجئ العاملة في هذا المجال، مثل “ستار” و”سارا” و”رفق”، عبر تخصيص أراضٍ وتجهيزها لاستيعاب أعداد أكبر من الحيوانات وتوفير الحد الأدنى من الرعاية. وشددوا على ضرورة سنّ قوانين واضحة تحمي الحيوانات وتلزم البلديات باتباع أساليب إنسانية في التعامل معها، رغم الأزمات المتعددة التي تمر بها البلاد.
قتل الكلاب الشاردة: حملة رسمية أم فوضى أمنية؟
تشير المنشورات الصادرة عن “إدارة الأمن العام- مديرية أمن قطنا” إلى إطلاق حملة تهدف إلى التخلص من الكلاب الشاردة في المدينة، حيث أعلنت المديرية أنها بدأت منذ العشر الأواخر من رمضان باستخدام “طرق إنسانية” تشمل التسميم والصيد، وذلك بزعم الحفاظ على سلامة الأهالي وأطفالهم. وبررت المديرية ذلك بدوافع دينية وأمنية، معتبرة قتل الكلاب الضالة “حلاً حكيماً” لمشكلة اجتماعية.

وفقاً للسردية، أفادت الناشطة، ريما (اسم مستعار)، من سكان صحنايا، أن إطلاق النار على الكلاب الشاردة بدأ منذ فترة، قائلةً: “صار ينتشر بوستات أنه رح تتقوص الكلاب الشاردة”، ومنذ سقوط النظام بات إطلاق النار يحدث بشكل متكرر، و”بصحنايا كتير تقوص وما منعرف مين”. وأضافت أنه قبل نحو أسبوع، شوهدت مجموعات ترتدي زي الأمن العام وهي تطلق النار على عدد كبير من الكلاب في الأشرفية، بينما يستمر إطلاق النار في صحنايا حتى اليوم دون معرفة الجهة التي تقف وراء ذلك
جهود رسمية محدودة: وعود بطيئة واستجابة خجولة
في مقابل الضغط الشعبي، أعلنت بعض الجهات الرسمية عن نيتها التعاون مع منظمات حماية الحيوان لإيجاد حلول جذرية، مؤكدة أن قتل الحيوانات يجب أن يكون الخيار الأخير، ولا سيما في حالات الكلاب المصابة بداء السعار. ومع ذلك، لا تزال هذه الوعود محدودة ولم تُترجم بعد إلى إجراءات عملية ملموسة.

وقد أكدت مديرة جمعية سارا ذلك في حديثها، مشيرة إلى أنه بعد التواصل مع محافظي دمشق وريف دمشق، قامت الجمعية بشرح وجهة نظرها باستفاضة، وقد لاقت آذاناً صاغية بالفعل. حيث وجّه محافظ ريف دمشق إيعازاً إلى البلديات بضرورة إيقاف حملات القتل بشكل مباشر وفوري. وعند سؤاله عن سبب عدم إصدار قرار خطي بهذا الشأن، أوضح أن القانون السوري لا يجيز أساساً قتل الحيوانات الشاردة، بل يقتصر فقط على السماح بقتل الكلاب المصابة بداء السعار، وذلك استناداً إلى قانون مضى عليه 45 عاماً، وبالتالي، لا يمكن إصدار قرار خطي يتناقض مع قانون غير موجود أصلاً.
الإطار القانوني: فراغ تشريعي مقلق
لا يتضمّن القانون السوري الحالي نصوصاً صريحة تجرّم تعذيب أو قتل الحيوانات الشاردة. ويقتصر التجريم على قتل المواشي أو الحيوانات المملوكة لأشخاص، ما يترك الحيوانات الضالة دون أي حماية قانونية تُذكر. هذا الفراغ التشريعي يُسهّل ارتكاب الانتهاكات دون محاسبة، ويدفع النشطاء للمطالبة العاجلة بإصلاح قانوني يواكب المبادئ الإنسانية والمعايير الدولية.
حول حماية الحيوانات، يقول المحامي، محمد علي المليجي، لمجلة لحلاح: “للأسف، يعاني القانون السوري من فراغ تشريعي واضح بما يتعلق بمسألة الحيوانات الشاردة أو الحيوانات الأليفة التي تُربى في المنازل. الإطار القانوني الحالي يقتصر على تنظيم ما يُعرف بالثروة الحيوانية كالماشية والأبقار والماعز والإبل، دون أي تنظيم خاص بالحيوانات غير المملوكة أو غير المنتجة. لا توجد نصوص صريحة تُجرّم قتل الحيوانات الشاردة أو تعنيفها، وهو ما يفتح المجال لممارسات غير منظمة وخالية من أي رقابة قانونية”.
في حال ارتُكبت أفعال عنف أو قتل بحق الحيوانات، يوضح المحامي محمد علي، أنه “لا يوجد نص قانوني في سوريا يُجرّم صراحةً قتل الحيوانات الشاردة. مع ذلك، ينص قانون العقوبات السوري في المادة 728 على معاقبة من يقتل أو يسيء عمداً إلى حيوانات الجر أو الحمل أو الركوب أو المواشي، شريطة أن تكون مملوكة للغير. العقوبة تتراوح بين الحبس من 15 يوماً إلى 6 أشهر، وقد تصل إلى سنتين إذا وقع القتل باستخدام التسميم”. أما من ناحية المسؤولية المدنية، فإن القانون يقر بمفهوم “مسؤولية حارس الحيوان”، ما يعني أن الشخص الذي يكون الحيوان تحت إشرافه أو ملكه يُسأل مدنياً عن أي ضرر يتسبب فيه الحيوان للغير أو للممتلكات، حتى لو لم يكن هناك تجريم جنائي.
يضيف المليجي: “من المؤكد أن تنظيم حقوق الحيوان في سوريا يتطلب إصدار قانون خاص ومستقل، يتناول مختلف جوانب حماية الحيوانات، سواء المملوكة أو الشاردة. مثل هذا التشريع يجب أن يصدر عن السلطة التشريعية في البلاد، أي مجلس الشعب. وبما أننا لا نزال في مرحلة انتقالية ولم يُعاد تفعيل البرلمان حتى اللحظة، فإن إصدار مثل هذه القوانين مرهون بالتطورات السياسية المقبلة، ورغم ذلك، أعتقد أن سوريا ستشهد في المرحلة القادمة نهضة تشريعية حقيقية، تشمل تحديث القوانين بما يتناسب مع المعايير الحقوقية الحديثة، ومن الطبيعي أن يكون من ضمنها تشريع يُعنى بحماية الحيوانات وحقوقها”.
كذلك، نوّه إلى ظاهرة قتل الحيوانات الشاردة من قبل البلديات والمحافظات، سواء عبر إطلاق النار أو استخدام رؤوس الدجاج المسمومة. هذه الممارسات، إلى جانب كونها غير إنسانية، لا تستند إلى أي إطار قانوني منظم، وتتنافى مع المبادئ الأخلاقية والبيئية الحديثة. نأمل أن يتم استبدال هذه الممارسات بإنشاء دور رعاية متخصصة، توفر مأوى ورعاية طبية وإنسانية لهذه الكائنات، وفق أسس قانونية واضحة.
إن ما يجري اليوم بحق الحيوانات الشاردة في سوريا لا يمكن اعتباره مجرّد تجاوز فردي أو خطأ عابر، بل هو انعكاس عميق لأزمة قيم ومؤسسات. إن العنف ضد الكائنات الأضعف في المجتمع يُمثل إنذاراً خطيراً لما وصلت إليه مفاهيم الرحمة والمسؤولية لدى الأفراد والجهات الرسمية. وبينما ترفع الأصوات من الشارع والناشطين والجمعيات مطالبة بحلول إنسانية وتشريعات عادلة، يبقى الأمل معقودًا على مرحلة جديدة من التشريع والمحاسبة، تضع في اعتبارها أن حماية الحياة –أي حياة– هي المعيار الأول لتحضّر المجتمعات وإنسانيتها.