سوريا ليست بمنأى عن خطر الغازات الدفيئة

للوهلة الأولى قد تبدو الغازات الدفيئة مصطلحاً علمياً جافاً، لكنّها في الواقع واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في العالم اليوم، إذ أنها تقف وراء التحوّلات المناخية التي باتت تُغيّر ملامح كوكب الأرض وتؤثّر في مختلف جوانب الحياة عليه، فهي تعمل كغطاء شفّاف يلفّ الأرض يسمح بمرور أشعة الشمس لكنّه يحتجز الحرارة المنبعثة من سطحها، مانعاً إيّاها من التسرّب إلى الفضاء بشكل كامل، وخلافاً لكونها ظاهرة طبيعية ضرورية للحياة، فإن تضخّمها بفعل الأنشطة البشرية جعل منها مشكلة كونية تُعرف بـ “التأثير الدفيئي المعزز”.

يُعدّ ثاني أكسيد الكربون الناتج عن حرق الوقود الأحفوري المصدر الأبرز لهذه الانبعاثات، تليه غازات أخرى كالميثان المنبعث من تربية الماشية والنفايات العضوية، وأكسيد النيتروز الناتج عن استخدام الأسمدة، فضلاً عن الغازات الفلورينية الصناعية المستخدمة في التبريد وصناعة الإلكترونيات، بحسب بيانات US EPA وNational Grid.

الإنسان، كما تؤكد تقارير Kunak وEmission Index، هو المحرّك الأساسي لتفاقم هذه الظاهرة. فحرق الفحم والنفط لتوليد الكهرباء وتحريك وسائل النقل، وقطع الغابات لصالح التوسع العمراني أو الزراعي، كلها أنشطة تُضيف كميات هائلة من الغازات الحابسة للحرارة إلى الغلاف الجوي. ومع تراجع المساحات الخضراء، تفقد الطبيعة قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، ما يُضاعف من حدة الأزمة.

لا تقتصر تداعيات هذه الغازات على ارتفاع درجات الحرارة العالمية، بل تمتدّ إلى تغيّر أنماط الأمطار وتزايد موجات الجفاف، وذوبان الجليد وارتفاع مستوى البحار. النتيجة، كما تصفها اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ (UNFCCC) تتمثّل في خلل في النظام المناخي العالمي ينعكس على الزراعة، والصحة، والأمن الغذائي، والاقتصاد.

في مواجهة ذلك، تتسابق دول العالم لاعتماد سياسات تقلل الانبعاثات؛ من أبرزها التحول إلى الطاقة النظيفة كالطاقة الشمسية والرياح، وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة في الأبنية والمواصلات، وإعادة تشجير الغابات كمصارف طبيعية للكربون. كما تلعب الإدارة الذكية للنفايات، والتوسع في النقل العام، وسنّ التشريعات البيئية دوراً حاسماً، غير أن الخبراء يشددون على أن الوعي المجتمعي والتعليم البيئي لا يقلان أهمية عن أي تكنولوجيا، فالتغير المناخي يبدأ من السلوك الفردي كما من القرارات الكبرى.

في سوريا، لا تبدو الانبعاثات مرتفعة مقارنة بالدول الصناعية، إذ تشير إحصاءات Emission Index إلى أن إجمالي الانبعاثات عام 2021 بلغ نحو 46.6 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، أي ما يقارب 2.6 طن للفرد سنوياً. لكن ضآلة الرقم لا تعني قلة الخطر. فالبلاد، التي أنهكتها الحرب والدمار، تواجه مزيجاً من التحديات البيئية والاقتصادية التي تفاقم هشاشتها أمام تغيّر المناخ.

الطاقة تبقى المصدر الأكبر للانبعاثات، نتيجة الاعتماد على الوقود التقليدي في التدفئة والكهرباء. يليها قطاعا النفايات والزراعة، إضافة إلى التدهور البيئي الناتج عن إزالة الغابات والرعي الجائر، وفق تقارير UNFCCC. أما الحرب، فقد زادت من تعقيد المشهد بسبب تدمير البنى التحتية ودفع السكان إلى بدائل طاقة أقل كفاءة وأكثر تلويثاً.

الغازات الدفيئة ليست مجرّد مسألة بيئية، بل هي في الجوهر قضية تنموية، لأنّها تمسّ الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي، وتحدّد قدرة الدول على الصمود أمام الأزمات، وفي سوريا، التي تعيش ظروفاً استثنائية، يبدو الطريق نحو بيئة أكثر استدامة طويلاً، لكنها قد تكون قابلة للتحقق عبر مزيج من الوعي، والدعم الدولي، والسياسات الوطنية التي تضع المناخ في صميم مشاريع التنمية وخطط إعادة الإعمار.

Scroll to Top