سوريا تفقد اثنين من محاصيلها الإستراتيجية

يمرّ القطاع الزراعي في سوريا بمرحلة صعبة تتقاطع فيها آثار الحرب الطويلة مع التغيّرات المناخية الحادّة لتشكّل أزمة مزدوجة تهدد معيشة آلاف الأسر الريفية، إذ لم تسلم أي من المحاصيل الاستراتيجية من هذا التدهور، وخاصة القطن والزيتون، يفقدان بريقهما عاماً بعد عام تحت وطأة الجفاف وغياب الحلول، وبين حقول القطن التي تحوّلت إلى أراضٍ قاحلة، وبساتين الزيتون التي تكافح للبقاء، تتكشّف صورة قاتمة لمستقبل الزراعة في البلاد، عنوانها العطش، وارتفاع التكاليف، وتراجع الإنتاج، في ظل غياب حلول مستدامة تعيد للحقل السوري قدرته على العطاء.

تعيش منطقة الجزيرة السورية واحداً من أكثر مواسم القطن سوءاً في تاريخها، بعد أن تراجعت المساحات المزروعة به من نحو 52 ألف هكتار عام 2011 إلى أقل من 7 آلاف هكتار في موسم 2025، في تدهور يعكس انهيار أحد أعمدة الاقتصاد الزراعي في شمال وشرق البلاد.

على الرغم من أن المنطقة كانت لعقود خزان سوريا الزراعي، فإن موجات الجفاف المتكررة –التي وصفتها منظمة الأغذية والزراعة (فاو) بأنها الأسوأ منذ 36 عاماً– ضربت قلب الإنتاج الزراعي، فتراجعت معدلات الأمطار وجفّت الأنهار، لتتحول الأراضي الزراعية إلى مساحات قاحلة. هذا التراجع ترافق مع أزمة اقتصادية خانقة، حيث حددت هيئة الزراعة التابعة للإدارة الذاتية سعر الطن الواحد من القطن بـ 600 دولار فقط، وهو رقم لم يُرضِ المزارعين الذين يؤكدون أنه لا يغطي تكاليف الزراعة ولا يعوّض الخسائر المتراكمة.

تغيّر المشهد في الجزيرة السورية جذرياً خلال السنوات الأخيرة، فبعد أن كان القطن يشكّل نحو 60% من المحاصيل الصيفية ويوفّر مصدر دخل لآلاف الأسر، تراجعت المساحات المزروعة بشكل حاد نتيجة تداخل عوامل مناخية واقتصادية وإدارية. ارتفاع تكاليف الزراعة، وغلاء المحروقات، وصعوبة تأمين مياه الري، إضافةً إلى تراجع جودة البذور المستوردة التي لا تتلاءم مع طبيعة التربة المحلية، جعلت زراعة القطن مغامرة محفوفة بالخسائر. كما أدى غياب الدعم الحكومي المباشر، وتراجع دور مؤسسات إكثار البذار والوحدات الإرشادية التي كانت تشرف على المحصول وتقدّم المساعدات، إلى ترك المزارعين يواجهون الخسائر وحدهم.

في محاولة لتخفيف المعاناة، أعلنت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا عن برنامج دعم بنسبة 15% من المساحات المرخّصة ضمن المحاصيل الصيفية، لكن المزارعين وصفوه بأنه محدود وغير كافٍ لتغطية تكاليف الزراعة أو إنقاذ الموسم. ففي محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، التي كانت يوماً قلب “الذهب الأبيض”، خفّض أغلب المزارعين مساحات القطن إلى الحد الأدنى، بينما تخلّى آخرون عنه كلياً بعد الخسائر المتكررة. ومع استمرار الجفاف، وتقلّب الأسعار، وضعف الجدوى الاقتصادية، تواصل الحقول فقدان بريقها، ويبدو أن القطن السوري يسير نحو الغياب، تاركاً وراءه مزارعين أنهكهم الانتظار.

أعلنت مديرية الزراعة في محافظة حماة عن انخفاض إنتاج الزيتون في المحافظة بنسبة 40% بسبب موجة الجفاف التي رافقت فترة الإزهار، إضافة إلى انخفاض الرطوبة الأرضية نتيجة تأخر هطول الأمطار بحسب مدير الزراعة في المحافظة صفوان المضحي، الذي أفاد بأن المديرية تتابع واقع الموسم الزراعيّ، وتواصل تقديم الدعم الفني والتقني للمزارعين، بما يضمن تحقيق إنتاج جيد وجودة عالية للمحصول، رغم التحديات المناخية الراهنة.

المزارع إبراهيم الموسى، وهو أحد زارعي الزيتون في منطقة محردة منذ أكثر من أربعين عاماً، يقول لمجلة لحلاح إن هذا الموسم هو الأقسى من حيث الجفاف الذي حلّ بالأراضي نتيجة قلّة الأمطار، مشيراً إلى أن “المزارع اليوم لا يفكر فقط في الموسم الحالي، بل بطبيعة المواسم القادمة، وإذا ما كانت الأشجار ستعيش مع هذا النقص الكبير في المياه”، ويتابع: “انخفض الإنتاج في أرضي بنسبة 10% عن العام الماضي، ومع أن زراعة الزيتون بعليّة، لكن الجفاف هذا العام دفعنا إلى الاعتماد على الصهاريج في الريّ، وعلى الرغم من ذلك كان الموسم كارثياً”.

يضيف الموسى أنه ومجموعة من الفلاحين قد رصدوا حالة غريبة قد تكون مرضاً ضرب الأشجار، “لا نعرف إن كانت وباء أو جرثومة، لكنها أدت إلى احتراق أغصان الزيتون، وكأن الماء لا يصل إلى أغصان الشجرة”.

يرى الموسى أنه على الرغم من أن الزيتون يعدّ محصولاً استراتيجياً إلا أنه غير مدعوم من قبل الدولة، مثل القطن أو القمح، “إلا أن دعمه بات ضرورةً في السنوات القادمة، سواء كان عبر المساعدة بتأمين المياه للري، أم المبيدات والأدوية للأشجار، أو حتى تأمين السماد”، كما يشير إلى أن المنظمات التي قدّمت وتقدّم المشاريع الزراعية، يقتصر دعمها على المشروع دون تأمين طرق سليمة وآمنة للري، ما يفاقم أحياناً من الأزمات.

 الجدير بالذكر أن سوريا كانت من بين الدول الأولى في إنتاج وتصدير الزيتون على مستوى العالم قبل اندلاع الحرب، كما شكّل تصدير زيت الزيتون جزءاً كبيراً من عائداتها، إلا أن تصنيفها تراجع بشكل كبير، يقول الموسى في هذا السياق: “باتت المواسم لا تغطّي بعضاً مما يتكلّفه المزارع عليها من أسمدة أو أدوية ومتابعة عمليات التقليم، وغيرها من احتياجات الأراضي الزراعية”، كما نوّه إلى مشكلة فرعيّة في غاية الأهمية برأيه وهي خسارة معظم الورشات لعملها هذا العام، “معظم  الفلاحين اعتمدوا على أفراد أسرهم لإتمام عمليات القطاف، أو اعتمدوا على عدد قليل جداً من الأشخاص العاملين ضمن الورشات، بسبب تراجع الإنتاج”.

هذه المعطيات تضعنا أمام تساؤلات حول مستقبل زراعة الزيتون، والزراعة بشكل عام، والوضع المعيشيّ للعاملين في المجال الزراعي –على الأخص النساء في الأرياف– في ظل استمرار حالة الجفاف التي تعيشها المنطقة، مع غياب شبه كامل للحلول.

Scroll to Top