زراعة مستدامة للتعافي الاقتصادي والبيئي في سوريا  

بشار يوسف

من حقول الحسكة في أقصى الشمال الشرقي وصولاً إلى درعا جنوباً، يشترك المزارعون في ترديد عبارة واحدة: الماء لم يعد كافياً، إذ ينهش الجفاف سنةً تلو الأخرى ما بقي من أراضٍ زراعية. إلى جانب ذلك، تسبّبت الأعمال العسكرية خلال عقد ونصف بتدهور التربة وتخريب شبكات الري، لتشكّل هذه العوامل وغيرها تهديداً مباشراً لأمن سوريا المائي والغذائي في الوقت الذي يعاني فيه السكان بالفعل من ضغوط اقتصادية هائلة. 

في ظلّ هذه الظروف، وفي خضم الحديث عن إعادة الإعمار، تبرز الزراعة المستدامة لا كشعار بيئي فحسب، بل كخيار إستراتيجي للتعافي الاقتصادي والبيئي، لأنها يمكن أن تجمع بين زيادة الإنتاج وتقليل الضغط على الموارد الطبيعية. 

في الحالة السورية يمكن فهم الزراعة المستدامة على أنها مجموعة من الممارسات التطبيقية من قبيل استحداث منظومة ريّ أكثر كفاءة (الري بالتنقيط)، وتنويع المحاصيل وتقنيات إدارة التربة لتحسين خصوبتها، علاوةً على الاعتماد على الأسمدة العضوية المحلية والحدّ من استخدام المبيدات الكيميائية، والتحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة لتقليل تكاليف التشغيل. باختصار؛ نتحدّث هنا عن حزمة من الإجراءات التقنية والإدارية القابلة للقياس والتطبيق. 

منذ عام 2011، تراجع الإنتاج الزراعي في سوريا بشكل كبير، وباتت البلاد معرّضة لكثير من “الصدمات الغذائية” مع استمرار الاعتماد على طرق الزراعة التقليدية والإنتاج غير المستدام، فعلى سبيل المثال، تُظهر تقارير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو” انخفاضاً مستمراً في زراعة القمح، وهذا العام كان أكثر حدة جرّاء الجفاف مع توقّع حصول عجز وشيك في الحبوب وفقاً لتقرير نشرته وكالة رويترز في آب الفائت. كذلك، وبحسب تقديرات لجنة الزراعة في القامشلي التابعة للإدارة الذاتية، لم تُزرع هذا العام سوى 30% من المساحات القابلة للحصاد، بينما تلفت 70% من الأراضي البعلية بسبب الجفاف، كما تراجعت المساحات المزروعة بالقطن من نحو 52 ألف هكتار عام 2011 إلى أقل من 7 آلاف هكتار في موسم 2025، وأيضاً انخفض إنتاج الزيتون في محافظة حماة بنسبة 40% بسبب موجة الجفاف التي رافقت فترة الإزهار، إضافة إلى انخفاض الرطوبة الأرضية نتيجة تأخر هطول الأمطار. 

علاوةً على ما سبق، من الضرورة بمكان التنويه إلى أن القطاع الزراعي يستهلك الجزء الأكبر من موارد المياه في سوريا ومحيطها بشكل عام، وتشير بعض الدراسات إلى أن الزراعة قد تستهلك حتى 85% من المياه المتاحة في بعض الدول، ما يجعل تحسين كفاءة الري خطوة أساسية لا بدّ منها بالنظر إلى موجة الجفاف التي تضرب المنطقة بسبب التغير المناخي من جهة، واستخدام المياه كأداة سياسية من جهة أخرى. 

بهدف تدارك هذه المشكلة، ولو بشكل جزئي، يمكن الاستفادة من تجارب دول عربية أخرى اتخذت إجراءات مماثلة، ففي الأردن على سبيل المثال أسهم إدخال الري بالتنقيط مع أدوات قياس رطوبة في توفير مياه يتراوح بين 20–50% وزيادة في غلة محاصيل مثل الطماطم والخيار بنسبة 15–20%. أما في المغرب، أظهرت المشاريع الممولة من من مؤسسات مثل البنك الدولي لرفع مرونة الري في ظل نقص الأمطار تحسناً ملحوظاً في كفاءة استخدام المياه والإنتاجية. 

بالعودة إلى سوريا، من المرجح أن استبدال نظم الري التقليدية بأخرى تعتمد على التنقيط، بجانب التدريب ودعم البنية التحتية، قد يخفّض الحاجة للمياه بنسبة قد تتراوح بين 20% و50% ويزيد من إنتاجية المحصول، وهو ما يعني بدوره تحقيق دخل إضافي للمزارعين ويقلل من استيراد الحكومة للمواد الغذائية الأساسية، وخاصة الحبوب.

خلال السنوات الماضية، أقامت بعض المنظمات الدولية والمحلية بعض المشاريع الفنية وورش التدريب في إطار برامج إعادة الإعمار الزراعي، إلا أنها بقيت ضمن نطاق محدود. بغية توسيع هذه التجارب، والتحوّل إلى الزراعة المستدامة والذكية مناخياً، لا مناص من إجراء إصلاحات في إدارة موارد المياه وتعزيز نظم مراقبة السحب من المياه الجوفية، بالإضافة إلى توفير تمويل مستهدف يقدّم قروضاً ميسّرة من أجل تركيب تجهيزات الري بالتنقيط والطاقة الشمسية، مع إجراء برامج تدريب واسعة لنقل خبرات الزراعة العضوية وإدارة المياه للمزارعين والجمعيات التعاونية، كما يجب فتح أسواق للمنتجات العضوية المحلية وخلق حوافز للمزارعين.

هذا التحوّل إلى ممارسات مستدامة من شأنه أن يحدّ من النفقات التشغيلية (تكلفة الوقود والأسمدة وتأمين المياه)، وأن يساعد في تحسين جودة المنتجات الزراعية وزيادة فرص الوصول إلى أسواق ذات قيمة أعلى. هنا لا بد من التذكير بأن الزراعة المستدامة ليست حلاً سحرياً فورياً، لكنها مسار عملي قابل للقياس يمكن أن يخفف من العبء المائي ويزيد من الإنتاجية ويعيد الحياة إلى الأرياف، وبالاطلاع على تجارب مماثلة، فإن الفائدة الاقتصادية قد تظهر خلال موسمين أو ثلاثة مواسم زراعية، شريطة وجود إدارة جيدة وإعداد خطة تمويلية وعملية نمذجة للمناطق الزراعية الأكثر عرضة للجفاف، ونشر تجارب الري المنخفض الاستهلاك مع دعم فني مستمر، أي أن نجاح هذا المسار يعتمد على قدرة صانعي القرار والجهات المانحة على تحويل التجارب المتفرقة إلى برنامج وطني يربط الحقل بالسوق والسياسات الحكومية.

Scroll to Top