دمشق وجهاً لوجه مع الفقر المائي

نور سليمان

تشهد العاصمة السورية دمشق أزمة مائية حادة، تُعدّ الأخطر منذ عقود، وسط تحذيرات رسمية من احتمال توقف وصول المياه إلى أكثر من 1.2 مليون مشترك خلال أشهر الصيف القادمة. يعود هذا التدهور إلى تراجع غزارة نبع الفيجة، المصدر الرئيس لمياه الشرب في المدينة وريفها، بالإضافة إلى الانخفاض الحاد في معدل الهطولات المطرية الذي لم يتجاوز ما نسبته 30% من المتوسط السنوي، في ظل ارتفاع الطلب على المياه بشكل غير مسبوق، بحسب ما أوردته صحيفة “الثورة”.

في المقابل، رفعت المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في دمشق حالة الطوارئ، معلنة أن الوضع المائي في العاصمة لم يكن بهذا السوء منذ عام 1958، وأوضحت المؤسسة أن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى مزيد من التقنين، لا سيما في ظل تعطل عدد من الآبار الاحتياطية التي كان من المفترض أن تساهم في سد العجز الناتج عن انخفاض غزارة نبع الفيجة.

يعاني سكان أحياء دمشق بشكل يومي بسبب انقطاع المياه لساعات طويلة وضعف الضغط أثناء أوقات الضخ، ما يجعل تعبئة الخزانات مهمة شبه مستحيلة، خصوصاً في ظل عدم تزامن تقنين الكهرباء مع مواعيد ضخ المياه.

أبو محمد، أحد سكان حي كشكول، يقول إن الضخ ضعيف لدرجة أن استخدام “الموتور” لا يجدي نفعاً، ما يدفع الأهالي للاعتماد على صهاريج المياه رغم تكلفتها العالية، والتي لا تكفي سوى ليومين أو ثلاثة على الأكثر.

أم مصطفى، ربة منزل، تصف الوضع بأنه لا يُطاق، إذ لم تعد قادرة على غسل الملابس إلا مرة واحدة أسبوعياً على الرغم من احتياجات أطفالها اليومية.

كذلك الأمر بالنسبة إلى مها، وهي معلمة مدرسة، والتي تضطر للسهر حتى ساعات الفجر لتعبئة خزان الماء خلال الفترات القصيرة التي يتزامن فيها توفر التيار الكهربائي مع مياه الشرب، ما يسبب لها إرهاقاً شديداً خلال ساعات العمل النهارية، ناهيك عن جزء كبير من راتبها الذي يُنفق لشراء المياه من الصهاريج، حيث تبلغ التكلفة 75 ألف ليرة سورية فما فوق في أغلب المناطق.

أكدت المؤسسة العامة لمياه الشرب أن الأزمة ناتجة عن عوامل متعددة، على رأسها شح الموارد المائية، وانخفاض الهطولات المطرية، وازدياد الطلب مع قدوم فصل الصيف، وأشارت إلى اتخاذ إجراءات طارئة، أبرزها تعديل برنامج التزويد المائي في مدينة دمشق والمناطق المحيطة بها بما يتناسب مع الكثافة السكانية والتوزع الجغرافي، وإعادة تقييم خطط الضخ بشكل دوري، مع إعلان البرامج التفصيلية لكل حي بشكل مسبق.

كما أعلنت المؤسسة عن تشغيل بعض الآبار بعد تأمين محركات جديدة لها، وإصلاح أعطال طارئة في خطوط الضخ الرئيسية في مناطق القابون وكفرسوسة، بما يساهم مؤقتاً في تحسين الواقع المائي.

كما بدأت بتطبيق برنامج تقنين صارم لتوزيع المياه، يشمل جميع مناطق دمشق وريفها، بحيث لا تتجاوز ساعات ضخ المياه من 2 إلى 4 ساعات يومياً في بعض الأحياء، بينما تعتمد أحياء أخرى على تعبئة المياه من الصهاريج، ما يزيد الأعباء المالية على السكان، داعية السكان إلى المساهمة في تخفيف الأزمة من خلال ترشيد استهلاك المياه، والإبلاغ الفوري عن الأعطال والتسريبات، ومتابعة التحديثات عبر القنوات الرسمية.

أدى التغير المناخي إلى تصاعد ظاهرة الجفاف في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، لا سيما في المناطق الصحراوية الجنوبية والشرقية من سوريا، فمنذ عام 2020، شهدت هذه المناطق انخفاضاً حاداً في معدلات الهطولات المطرية وارتفاعاً استثنائياً في درجات الحرارة، وقد أسفر هذا الجفاف عن آثار خطيرة طالت القطاع الزراعي، وقللت من توفر مياه الشرب، وتسببت في تناقص ملحوظ في الأحواض المائية.

جاء هذا التدهور البيئي في وقت تعاني فيه البلاد من تبعات الصراعات والاضطرابات السياسية، إلى جانب عوامل اجتماعية واقتصادية مثل ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، ما فاقم من آثار الجفاف، خاصة على صعيد الأمن الغذائي.

تشير بعض الدراسات العلمية إلى أن موجات الجفاف التي تمر بها سوريا ما كانت لتبلغ هذا الحد لولا التأثير المتسارع للتغير المناخي، وتتوقع الأبحاث استمرار هذه الظاهرة بل وتفاقمها مستقبلاً.

توضح إحدى الدراسات أن احتمال وقوع الجفاف في المنطقة كان في السابق مرة كل 250 سنة، إلا أنه ارتفع ليصل إلى مرة كل عشر سنوات عند زيادة الحرارة بمقدار 1.2 درجة مئوية، وقد يصبح مرة كل خمس سنوات مع بلوغ الزيادة درجتين مئويتين.

يعتمد حدوث الجفاف على عاملين رئيسيين، انخفاض الهطولات المطرية وارتفاع معدلات التبخر، ورغم التغيرات الطفيفة في كمية الأمطار، إلا أن الارتفاع المستمر في درجات الحرارة أدى إلى زيادة ملحوظة في التبخر، ما تسبب في جفاف التربة، وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وتقلص المسطحات المائية في الأنهار والبحيرات والسدود. وتشير التقديرات إلى أن كمية المياه المفقودة في سوريا حتى عام 2022 بلغت نحو 2.2 مليار متر مكعب.

تكشف الأزمة أن نقص المياه في دمشق ليس فقط نتاج عوامل طبيعية، بل يتشابك مع تعقيدات اقتصادية واجتماعية وبنيوية، أبرزها هشاشة البنية التحتية، وسوء التخطيط، وغياب التنسيق بين القطاعات، ما يجعل تأمين المياه تحدياً يومياً ينهك السكان. فشراء صهريج ماء أصبح عبئاً لا تقدر عليه معظم العائلات، في وقت تغيب فيه سياسات فاعلة للتوزيع العادل أو للعدالة المائية بين الأحياء والمناطق.

مع اقتراب أشهر الصيف الحارة، تتصاعد المخاوف من دخول دمشق فعلياً في مرحلة “الفقر المائي”، ما لم تُتخذ إجراءات جذرية وسريعة، وفي ظل الجمود الحكومي، والتصريحات المتكررة دون نتائج ملموسة، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: هل تمتلك الحكومة الإرادة والقدرة على توفير أحد الاحتياجات الأساسية لمواطنيها؟ أم أن العاصمة التي كانت تُعرف يوماً بمدينة الأنهار ستواجه العطش كقدر حتمي؟

Scroll to Top