إعداد فريق لحلاح
في شوارع المدن السورية، لم يعد دخان السيارات مجرّد مشهد مألوف، بل تحوّل إلى أحد أخطر مصادر تلوث الهواء وأكثرها تأثيراً على صحة السكان والبيئة. ومع تزايد أعداد المركبات القديمة وتراجع جودة الوقود المتوافر في الأسواق، تتصاعد الانبعاثات السامة يوماً بعد يوم، مسبّبةً أضراراً بيئية وصحية يصعب تجاهلها.
السيارات القديمة… محركات متعبة وهواء ملوث
تُقدّر التقارير البيئية أن نسبة كبيرة من السيارات العاملة في سوريا تعود إلى القرن الماضي، ما يعني أن محرّكاتها تفتقر إلى تقنيات الحدّ من الانبعاثات. هذه المركبات تُنتج كميات كبيرة من أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة (PM2.5)، وهي ملوّثات ترتبط مباشرة بأمراض الجهاز التنفسي وأزمات القلب والسرطان.
السيارات القديمة لا تستهلك وقوداً أكثر فحسب، بل تحرقه بكفاءة منخفضة، ما يضاعف كمية الغازات الضارة المنبعثة في الجو. ويؤدي غياب الفحص الفني المنتظم إلى تفاقم المشكلة، إذ تعمل آلاف السيارات على الطرق دون صيانة دورية لأنظمة العادم والاحتراق.
وقود رديء الجودة يزيد الأزمة اشتعالاً
تُضاف إلى مشكلة السيارات القديمة أزمة نوعية الوقود المستخدم في البلاد. وفقاً لتقرير Country Environmental Profile for the Syrian Arab Republic المنشور على موقع ResearchGate عام 2009، يحتوي البنزين السوري على نسبة كبريت تصل إلى 0.15%، بينما تبلغ النسبة في الديزل 0.7%، وقد تصل في زيت الوقود الثقيل إلى 3.5% — وهي نسب مرتفعة جداً مقارنة بالمعايير الدولية، ما يجعل هذا الوقود من أخطر مسببات التلوث الجوي.
كما أشارت تقارير محلية إلى أن الوقود المتوافر في الأسواق السوداء أو من مصادر غير رسمية لا يخضع للمواصفات القياسية، ويحتوي على شوائب تؤدي إلى أعطال في المحركات وزيادة انبعاثات الدخان الأسود الكثيف. في محافظة الرقة مثلاً، تحدّث سائقو سيارات الأجرة عن معاناتهم من الوقود الملوَّث الذي يسبّب تآكلاً في المحرّكات واستهلاكاً مفرطاً للمازوت. أما في حمص، فقد اشتكى الأهالي من “مازوت أسود كثيف مليء بالشوائب”، بحسب تقارير إعلامية محلية.
هذه النوعية الرديئة من المحروقات تؤدي إلى إطلاق أكاسيد الكبريت، التي تتحوّل عند تفاعلها مع الرطوبة إلى أمطار حمضية تضر بالنباتات والتربة والمياه الجوفية، كما تُساهم في زيادة تلوّث الهواء بالجسيمات الدقيقة المسبّبة للأمراض.
التأثير الصحي والبيئي
تُشير منظمة الصحة العالمية إلى أن تلوّث الهواء يتسبب في وفاة نحو 7 ملايين شخص سنوياً حول العالم، ويُعدّ دخان السيارات من العوامل الرئيسة وراء هذه الإحصائية المقلقة. في سوريا، تتضاعف الخطورة بسبب الاستخدام المتواصل للوقود الملوّث والمركبات القديمة في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص، حيث يلاحظ السكان ارتفاعاً في معدلات الربو والحساسية والتهابات القصبات الهوائية.
إضافة إلى الأضرار الصحية، يساهم تلوّث الهواء في تراجع جودة الحياة الحضرية، إذ يغطي الضباب الدخاني أفق المدن في بعض الفصول، ويؤثر على الزراعة الحضرية والنباتات التي تُعدّ خط الدفاع الأول ضد تلوث الهواء.
كيف يمكن الحد من المشكلة؟
رغم التحديات، يمكن اتخاذ خطوات عملية للحد من تلوّث الهواء الناتج عن المركبات في سوريا، منها: استبدال السيارات القديمة تدريجياً بمركبات حديثة أو كهربائية أكثر كفاءة، وتحسين جودة الوقود المحلي وخفض نسبة الكبريت فيه لتتوافق مع المعايير البيئية العالمية، بالإضافة إلى تعزيز الرقابة على الأسواق غير الرسمية للوقود ومنع تداول المحروقات غير المكرّرة، وتوسيع شبكات النقل العام وتشجيع استخدام الدراجات والمركبات الكهربائية الصغيرة، إلى جانب إطلاق حملات توعية بيئية حول الصيانة الدورية للمركبات وتأثير انبعاثاتها على الصحة العامة.
إن مواجهة التلوّث الناجم عن السيارات في سوريا تتطلب رؤية بيئية شاملة تجمع بين تحديث أسطول النقل وتحسين نوعية الوقود وتشجيع أنماط تنقل أكثر استدامة. فالهواء النقي ليس رفاهية، بل حق أساسي لكل مواطن، ومسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع للحفاظ على صحة الإنسان والبيئة.



