نور سليمان –
تُعد منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط من أكثر المناطق البحرية تأثراً بالأنشطة البشرية والتغيرات المناخية، لما تتمتع به من موقع جغرافي فريد ونظم بيئية بحرية غنية ومتنوعة تُصنّف ضمن الأهم عالمياً، إلا أن هذه البيئة الفريدة تواجه تهديدات متصاعدة تتمثل في التلوث، وارتفاع درجات الحرارة، وازدياد ملوحة المياه، واجتياح الأنواع الغازية الدخيلة.
كشفت درسة علمية أعدتها الأستاذة في جامعة تشرين، الدكتورة ازدهار علي عمار (الدراسة كاملة في نهاية التقرير)، عن تدهور ملحوظ في التنوع البيولوجي البحري في المنطقة، حيث تم توثيق وجود 218 نوعاً من الأنواع الغازية، تؤثر على نحو 10.82% من التنوع الحيوي المحلي، وكذلك تسهم الأنشطة البشرية المتنوعة، من الصيد الجائر إلى التوسع العمراني الساحلي والتلوث الصناعي في إحداث اختلالات عميقة في النظم البيئية البحرية للبحر المتوسط، وتُعتبر هذه التأثيرات أكثر وضوحاً في المياه السورية، حيث سُجّل تراجع ملموس في التنوّع البيولوجي وتغيّر ملحوظ في أنماط توزّع الكائنات البحرية.
من أبرز التهديدات البيئية في هذا السياق، ظاهرة الأنواع الغازية، التي تُعد من أخطر ما تواجهه النظم البيئية في المنطقة. في سوريا، تم رصد أنواع عديدة أثّرت بشكل مباشر على الأنواع المحلية وبنية التجمعات البحرية، مثل Brachidontes pharaonis الذي أحدث تغييرات كبيرة في التجمعات الصخرية، وDiadema setosum الذي ظهر لأول مرة عام 2016 وتكاثر بشكل واسع حتى عام 2023، ما أدى إلى انحسار أنواع محلية كـParacentrotus lividus وArbacia lixula (Ammar, 2022؛ Martinez et al., 2023). وقد أسهمت هذه الأنواع الغازية في تغيير بنية الشعاب المرجانية وإرباك التوازن البيئي العام.
أما من حيث الأنواع المرجانية، فقد سُجل انتشار Dendrophyllia cornigera في المياه السورية منذ عام 1998، حيث تنتشر في شعاب رأس شمرا المرجانية، مشيرة إلى تحول بنيوي طويل الأمد (Ammar, 2002؛ Sweid, 2010). كما أظهر رصد اللافقاريات البحرية الغازية، ومنها مجددًا Diadema setosum، تهديدًا لاستقرار الأنظمة البيئية القاعية.
ترافق ذلك مع تراجع غابات الأعشاب البحرية، خاصة نتيجة انتشار طحالب غازية مثل Caulerpa cylindracea التي رُصدت حتى أعماق 40 مترًا قبالة الساحل السوري (Otero et al., 2022 Redlist). هذا التراجع يُعد مؤشراً خطيراً على ضعف قدرة البيئة البحرية على الاستيعاب والتجدد.
من جهة أخرى، تشير النماذج المناخية إلى ارتفاع متوقع في درجات حرارة سطح البحر المتوسط بمعدل يتراوح بين درجتين وأربع درجات مئوية بحلول عام 2100، مما يُسهم في زيادة ملوحة المياه وانخفاض مستويات الأوكسجين الذائب، وهو ما سيؤدي إلى تراجع حاد في التنوع البيولوجي، خاصة إذا ما تجاوزت درجات الحرارة 25.6 درجة مئوية بحلول منتصف القرن الحالي (Garrabou et al., 2021؛ Kersting et al., 2013). وتُنبئ هذه التحولات المناخية بتغيرات بيئية عميقة من شأنها إحداث تفكك تدريجي في النظم البيئية البحرية، وزيادة انتشار الأنواع الغازية.
يؤكد الناشط البيئي، محمود هلهل، أن التهديدات التي تواجه البيئة البحرية السورية باتت أكثر تراكماً وتشابكاً، ما يزيد من هشاشة النظام البيئي ويُصعّب عملية التعافي. ويشير إلى أن ارتفاع حرارة سطح البحر المتوسط بمعدل 1.5 درجة مئوية، وهو معدل يفوق المتوسط العالمي بنسبة 20%، قد أدى إلى زيادة معدلات التبخر، وبالتالي ارتفاع ملوحة المياه، خاصة في المناطق الساحلية، ما أثر على التوازن البيولوجي.
يضيف هلهل لمجلة لحلاح أن الغطاء النباتي البحري شهد تراجعاً بنحو 40% بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتقصّر دورة حياة الطحالب والنباتات البحرية، في الوقت الذي فرضت فيه الأنواع الغازية هيمنتها على الأنواع المحلية، مما زاد من اضطراب التوازن البيئي. كما ساهم الصيد الجائر، وغياب التنظيم الموسمي، واستخدام وسائل مدمرة مثل الصعق الكهربائي والمتفجرات، في استنزاف المخزون السمكي المحلي وإرباك السلسلة الغذائية.
أما التلوث البحري، فيُعد من أخطر التهديدات، خاصة في ظل استمرار رمي النفايات الصلبة والبلاستيكية في البحر، إضافة إلى التسربات النفطية ومخلفات المصانع، كما حدث في كارثة بانياس. هذه الملوثات تضر مباشرة بالحياة البحرية، وتؤثر على جودة المياه الساحلية.
ويوضح هلهل أن الأنواع الغازية التي دخلت عبر قناة السويس، مثل Rhopilema nomadica وDiadema setosum، بدأت تزاحم الأنواع المحلية على الغذاء والمكان، مما أربك التوازن البيئي. وقد دفعت هذه التحولات بعض الأنواع المحلية إلى الهجرة نحو الأعماق الأكثر برودة، مثل سمك البوري والأخطبوط، فيما تواجه الأنواع الحساسة للحرارة، كالإسفنجيات وقنافذ البحر، خطر الانقراض. وفي المقابل، تزداد سيطرة الأنواع الغازية، مثل أسماك النفيخة السامة، التي تلحق أضرارًا بالكائنات القاعية، كما تؤثر سلبًا على شبكات الصيد والبنية التحتية الساحلية، ويُضاف إلى ذلك تأثير ارتفاع الحموضة الناتج عن التبخر، الذي أدى إلى إضعاف تكوين الهياكل الكلسية لدى القشريات، وهي كائنات ضرورية في عملية تنقية المياه، مما انعكس سلبًا على أعدادها.
وفي ضوء هذه التهديدات، يدعو هلهل إلى ضرورة اتخاذ مجموعة من الإجراءات لضمان استدامة النظم البيئية البحرية، من أبرزها توسيع نطاق المحميات البحرية في مناطق مثل عمريت والهيشة، وتنظيم مواسم الصيد ومنع الممارسات الجائرة، إلى جانب الحد من التلوث البلاستيكي وتحسين أنظمة الصرف الصحي. كما شدد على أهمية تعزيز التعاون الإقليمي مع دول حوض المتوسط، وتطوير آليات فعالة لرصد الأنواع الغازية والتحكم بانتشارها، بما في ذلك تنظيم مياه الصابورة في السفن. ويختم بدعوة لتعزيز التوعية المجتمعية، وتشجيع السياحة البيئية والصيد النظيف، ودعم البحث العلمي، لا سيما في مجال دراسة آثار التغير المناخي على التنوع البيولوجي في سوريا.








