تدفئة آمنة لنا ولبيئتنا.. هل هذا كثير علينا؟

ليلى جروج

يعتمد كثير من السوريين، منذ أكثر من عقد، على طرق مختلفة قد تحميهم وأطفالهم من برد الشتاء، غير مكترثين بآثارها السلبية على سلامتهم، والتي قد تصل إلى فقدانهم الحياة خلال تأمينها أو أثناء استخدامها، لتغصّ هوامش الأخبار بين الحين والآخر بمن مات اختناقاً أو احتراقاً بعد أن سها وأطفاله بجانب إحدى وسائل التدفئة غير الآمنة، وبات وجود وسيلة تدفئة في كل غرفة من ذكريات زمن غابر.

تغيّرت اليوم وقائع كثيرة في حياة السوريين، وها هو الشتاء يطرق أبواب منازلهم وخيامهم مجدداً، بعد أن قضوا فصل الصيف يجمعون علب البلاستيك ومشتقات النايلون، لا بهدف بيعها للمعامل، أو لإعادة تدويرها، بل لحرقها في “تنكة” أو “صوبيا” للحصول على بعض النار الدافئة.

تتعدّد أنواع المدافئ المستخدمة حالياً في سوريا، من المازوت إلى الغاز أو الحطب، وبعض المنتجات التي توصف بالطبيعية، كالبيرين والبيليت، بالإضافة إلى الكهرباء، وتتخذ أشكالاً وأحجاماً مختلفة، لكل منها خصائص ومواد خاصة، وطرق تشغيل وتنظيف، ما يثقل كاهل الناس في بحثهم عن طريقة تناسب وضعهم الاقتصاديّ وما يتوفر لديهم من موارد يمكنهم استثمارها في هذه العمليّة.

نهاد (اسم مستعار) تعتمد على الحطب وما يتيّسر لها من بلاستيك أو حتى ملابس في تشغيل مدفأة أطلقت عليها اسم “الصوبيا المشكّلة”، فكما نحصل على تشكيلة من الموالح أو الحلويات، كذلك هذه المدفأة التي تقبل أي شيء قابل للاحتراق ويولّد الدفء. “أعتمد في تشغيلها على كل شيء، بالتأكيد حطبة وبعض المازوت كبداية، لكن النار تأكل كل شيء، ولا تفرّق بين قديم أو جديد، نايلون أو خشب أو قماش، أذكر أنني مدينة في العام الماضي لبعض الألبسة والأحذية المهترئة”، تقول نهاد.

هذا التعدد في وسائل التدفئة، وإن كان نابعاً من الحاجة الماسة للناس، يحمل طابعاً تجارياً بالنسبة لنهاد، وتضيف: “تمرّ على الناس ظروف قاسية جداً، وكل سنة تكون أقسى عليهم، من ناحية برودة الطقس، وتراجع الحالة الاقتصاديّة، ما يجعلهم يعتمدون على أي وسيلة متاحة للتدفئة، خصوصاً مع غياب شبه تام للكهرباء، لذلك يسعون لتجربة أي وسيلة قد تكون هي المناسبة لأوضاعهم”. بالطبع الأمر لا يقتصر على التدفئة المنزلية، بل يتعداها إلى الاستحمام، وتتابع: “حوّلت مدفأة الحمّام إلى الحطب، بالتأكيد لن أشتري واحدة جديدة، مع أن السوق غصّ بأشكال ونوعيات وأسعار مختلفة، لكنها خارج إمكانياتي، فأجريت عليها بعض التعديلات وهي الآن تعمل -متل الليرة”. 

المهندس الزراعي، مضر إسماعيل، وهو مختص في البيئة، يرجّح أن سبب تنوّع وسائل التدفئة في السنوات السابقة، بعد الاعتماد بشكل كبير على المازوت كمادة تدفئة رئيسية، هو انقطاعها من الأسواق لفترات طويلة، وغلاء ثمنها من جهة أخرى، ويضيف: “الأمر ليس تجارياً بقدر ما هو نوع من التكيّف، فقد صار للسوريين باع طويل به”.

في الأعوام السابقة، وقبل الحرب في سوريا، كان المازوت متوّفراً، فكان من النادر أن نجد من يستخدم وسيلة أخرى للتدفئة، يكمل إسماعيل: “حتى أن العرجوم الناتج عن معاصر الزيتون كان يواجه صعوبة في التسويق، بسبب ندرة استخدامه”، ويردف أن الأمر يختلف من منطقة إلى أخرى، ففي المناطق الجبلية العالية والقرى البعيدة لا يتخلى معظم السكان فيها عن الحطب، “يعتمد السكان على تشغيل مدفأة الحطب طوال اليوم، حتى أنها تُستخدم للطبخ بالتزامن مع الشتاء القاسي في تلك المناطق”.

يعتقد مضر اسماعيل بوجود نوعين من مستخدمي الحطب: “طبقة راقية تعتمد على الحطب كوسيلة تدفئة تكميلية وجمالية (الشومينه)، وطبقة أكثر فقراً تعتمد عليه بشكل كبير لأنه مادة رخيصة ومتوفرة”، لكنّه ينوّه إلى أنّ الخطر الأكبر يتمثّل في تجّار الحطب ممن يقطعون الأشجار بطريقة غير قانونية وبشكل كبير بهدف التجارة، ويتابع: “الدافع الاقتصادي من الأسباب الرئيسية للاستخدام، لأن استخدام الحطب للتدفئة عملية تتضمن عدة مخاطر وصعوبات، منها صعوبة الإشعال، والدخان الصادر عنه الذي قد يؤدي إلى أو يفاقم الأمراض التنفسية”.

يشير إسماعيل إلى أن النظام البيئي كان أكثر قدرة على التعافي في السابق، بسبب عدم وجود ضغط كبير على الغابات، “أما اليوم وفي ظل انقطاع وسائل التدفئة، والتدهور الاقتصادي، ازداد الضغط على الأنظمة البيئية وأضعف من قدرتها على التعويض، بالتأكيد الخطر الكبير هو الأثر على المناخ والتربة والتأثير على معدلات الهطولات المطرية وفقدان التنوّع الحيوي”، وقد يصل الأمر إلى فقدان بعض المناطق للطابع الجماليّ الذي كان عاملاً هاماً في الجذب السياحي.

كما تنعكس عمليات التحطيب العشوائية، وزيادة استهلاك الحطب والمواد الأخرى لغرض التدفئة، على الغابات وقدرتها على حفظ ثنائي أكسيد الكربون. يقول إسماعيل: “تعتبر الغابات مخازن للكربون على مدار العمر الطويل، فعمليات الحرق ستؤدي إلى تحرر غاز ثنائي أكسيد الكربون، ما سينعكس سلباً على الغابات وعلى العمليّة الزراعية بشكل عام”.

تشير نهاد إلى أنها لم تعتد قبل الحرب في سوريا على استخدام الحطب أو غيره من وسائل التدفئة، “اعتدنا على استخدامه لصنع بعض الأطعمة التقليديّة في مواسمها، فنستخدم ما يخرج من تقليم أشجار الكروم، ولم نعتد شراء الحطب من قبل”. لا يقتصر الأمر على الحطب بالنسبة لنهاد، فقد أطعمت النار كل شيء قابل للاحتراق، “من محاضرات الأولاد والكتب المدرسية، إلى الكتب الجامعية والجرائد، وصولاً إلى قشور المكسرات، كل شيء”. تلقي نهاد الضوء على الأفكار التي تراودها حول العائلات التي لديها أطفال، أو فيها شخص مسن أو مريض، وتتساءل عن كيفية تدبّر الناس لأمورهم في مثل هذه الحالات، وتضيف: “نحن في المنزل بالغين، ونعاني أحياناً من ضيق في التنفس، لكن في منطقتي مثل شعبي يقول: دخان يعمي ولا برد يطعن، نستخدمه كثيراً من باب المزاح حول دخان المدفأة، لكننا نعلم أنها ليست الحالة الأفضل لنا”.

“لا يتحمل الناس مسؤولية غلاء المعيشة أو تعثّر سبل العيش، ولا أظن أننا غير مدركين للخطر الصحي والبيئي لهذه الطرق في التدفئة، لكن أين الحل؟” تسأل نهاد وهي تحاول جمع بعض الأغصان اليابسة من شجرة الزيتون أمام بابها. لا تحمّل نهاد أحداً مسؤولية الوضع الحالي، تقول: “قرأنا مئات الأخبار خلال السنوات السابقة حول حالات اختناق، أو احتراق خيام بقاطنيها، وأفكر هل تتأثّر الأرض باحتراق البلاستيك لكنها لا تتأثر باحتراق الأطفال؟”، تضحك ساخرة وتعتذر عن هذه المقاربة، لكنها ترى أن تحسين حياة الناس، وتأمين حياة كريمة لهم، أو حتى السماح لهم بالسعي وراء هذه الحياة، كلها أشياء ستؤدي إلى نتائج جيدة، للإنسان والبيئة معاً.

بدوره يرى مضر إسماعيل أن السياسات البيئية وخاصة المتعلّق منها بالأحراج والغابات لم تكن كافية لوقف ما يصفها بالمجازر البيئية، “لا بل أثبتت فشلها خصوصاً في أول تجربة اختفت فيها سلطة الدولة ورقابة القانون بعد الحرب السورية، إذ بات هناك مافيات خشب وفحم عابرة للحدود”. 

ينصح إسماعيل بالاستفادة من السياسات البيئية المتبعة حالياً في أغلب البلدان المتقدمة من حيث الإدارة المستدامة، وإشراك المجتمعات المحيطة بالغابات والمتعايشة معها بالاستفادة من نواتج الغابة وتعزيز شعورهم بالمسؤولية تجاهها، “يدافع الناس عن ما يشكّل فائدة بالنسبة لهم، ويحافظون عليه مع إحساس مطلق بالمسؤولية تجاهه، أما إذا فُرضت قوانين وقواعد صارمة ستُعتبر الغابات عدواً من قبل الناس، وهو أمر يحتاج إلى تنسيق وجهد كبيرين”.

يعيد مضر إسماعيل التذكير بأن المواطن العادي الذي يتعرّض يومياً لضغوطات مختلفة سيعتبر الحديث عن البيئة شيئاً “أفلاطونياً”، لذلك من واجب المهتمين والعاملين في المجال البيئي، بالنسبة إليه، التركيز على الأجيال القادمة المنفتحة على العالم ليحملوا الوعي البيئي ونقله من حالة فردية إلى حالة مجتمعيّة، فالطرح البيئي اللطيف ضمن المجتمعات الخارجة من أزمات اقتصادية وإنسانية ومقاربتها لأمثلة واقعية حول سلوكيات يوميّة، وعادات سورية أصيلة صديقة للبيئة، ستحمل نتائج إيجابية أكثر بكثير من الاعتماد على الطرح العنيف أو فرض قوانين وعقوبات وتطبيقها على الفقراء والمعدمين.

Scroll to Top