نهى سلوم – داريا فارمان –
حين يُذكر التغيّر المناخي في الخطاب العام، غالباً ما يُختزل في صوره الكلاسيكية: ذوبان الأنهار الجليدية، ارتفاع مستويات البحار، أو تصاعد درجات الحرارة العالمية. لكن، هذا التصور التقني والمجرّد يُخفي خلفه واقعاً أكثر تعقيداً، تُشكّله تفاوتات اجتماعية عميقة، وتجسّده معاناة يومية لفئات مهمّشة تعيش في الظل، دون تمثيل أو صوت.
في قلب هذه الفئات، تقف النساء المهاجرات في ألمانيا كواحدة من أكثر الفئات تهميشاً في سياق العدالة المناخية. فبينما لم يسهمن تاريخياً في إنتاج الانبعاثات الكربونية، فإنهن يتأثرن بها بشكل غير متكافئ: من خلال ظروف سكن غير صحية، وظائف غير مستقرة، وغياب الحماية الاجتماعية أمام الأزمات المناخية.
من يملك الهواء؟ ومن يُستثنى منه؟
امرأة مهاجرة، تعيش في ضواحي مدينة ألمانية، تعمل في تنظيف المنازل، تقضي يومها متنقلة في القطارات، وتعيل أطفالها وحدها. هل هي جزء من خطط “التحوّل الأخضر” التي تتحدث عنها الحكومة الألمانية؟ هل تُؤخذ مصالحها بعين الاعتبار عند صياغة السياسات المناخية، أم أنها، كغيرها من المهمّشات، تُعتبر مجرّد “مستفيدة من الحماية”؟
التفاوت في التأثّر بالتغيّر المناخي لا يُفهم إلا من خلال تحليل تقاطعي، يأخذ بعين الاعتبار تداخل الجندر والعرق والطبقة واللغة والوضع القانوني، كما تقول الناشطة القانونية كيمبيرل كرينشو (Kimberlé Crenshaw).
النساء لا يُعانين من التمييز الجندري وحده، بل من تقاطعات معقدة بين هويات متعددة.
سياسات بيئية بلا منظور تقاطعي
تشير دراسة لجامعة بريمن (2021) إلى أن النساء المهاجرات يعشن غالباً في مساكن مكتظة تقع في أحياء حضرية شديدة التلوث، بخضرة وتهوية أقلّ، وأكثر عرضة لموجات حرّ شديدة. في كثير من الأحيان، تُؤجّر الشقق غير الصالحة للسكن إلى عائلات مهاجرة، خصوصاً تلك التي تعتمد على المساعدات أو لا تملك عقود إيجار مستقرة. الرطوبة والعفن في هذه الشقق ترتبط مباشرة بأمراض تنفّسية، خاصة لدى الأطفال، وهو شكل من أشكال الظلم البيئي غير المعلن.
في قطاع العمل، النساء المهاجرات يهيمنّ على وظائف التنظيف والرعاية والزراعة الموسمية -هذه المهن غالباً لا ضمانات فيها- ويعملن في بيئات عمل قديمة أو مكشوفة، مع تعرّض مباشر للحرّ أو المواد الكيميائية.
كما توثّق تقارير اتحاد النقابات الألماني (DGB 2023) ضعف الرقابة وحماية العاملات في هذا المجال.
أمّا على صعيد الوعي البيئي، فإنّ معظم الحملات تُصاغ بالألمانية التقنية، فلا تصل إلى المهاجرات حديثات القدوم بسبب هذه اللغة التقنية الصعبة والمعقّدة، ما يحرمهن من إجراءات وقائية أو خطط طوارئ عند الأزمات المناخية.
البيئة ليست حيادية… إنها سياسة
العدالة المناخية ليست مجرّد مسألة تقنية، بل قضية سياسية واجتماعية، تعود جذورها إلى حركات الأميركيين من أصل إفريقي في الثمانينيات، حين لاحظوا أن النفايات السامّة والمصانع تُقام دائماً في أحيائهم، كمثال صارخ على العنصرية البيئية.
في أوروبا، تتوسّع هذه الفكرة لتشمل عناصر مثل الجنسية واللغة والوضع القانوني للاجئين والمهاجرين. العدالة المناخية هنا ليست فقط حماية للطبيعة، بل أيضاً إعادة توزيع الموارد والمساحات والفرص بشكل منصف.
تنتقد الباحثة دونا هاراوي (Donna Haraway) الخطاب البيئي السائد، معتبرةً أن ما يُقدّم كـ”معرفة علمية موضوعية” هو في الحقيقة معرفة متموضعة، تصدر من موقع محدّد وله مصالح محدّدة. عندما يُقال للجميع: “قلّلوا بصمتكم الكربونية”، يُفترض أن الجميع قادر على اتخاذ قرارات حول السكن، الغذاء، النقل، والعمل، وهو افتراض بعيد عن واقع النساء المهاجرات.
المعرفة البيئية وبذور المقاومة
الخطاب البيئي غالباً يحمل لهجة علمية – تقنية، ويُقدّم كحقيقة موضوعية. لكن الواقع أن النساء المهاجرات غالباً لا يمتلكن خيارات في نوع الغذاء أو وسائل النقل أو مكان السكن. المعرفة البيئية تصبح مقصورة على فئة محددة، وتُستعمل أحياناً لسحب الشرعية من تجارب المهاجرات: “لماذا لا تعيشين حياة أكثر استدامة؟”. الإجابة واضحة: “لأن النظام لا يمنحهن الأدوات أصلاً”.
لكن ورغم كلّ التهميش، تظهر مبادرات تقودها النساء المهاجرات في مدن ألمانية كبرى: تعليم زراعي وبيئي بلغات متعددة، مجموعات دعم نسوي بيئي، إنتاج محتوى بيئي بلغات مختلفة…إلخ. هذه الجهود غير مرئية غالباً، لكنها تشكل لبنة أساسية في بناء عدالة مناخية شاملة.
حتى في بلدان الأصل، مثل سوريا، تأسست جمعيات بيئية محلية مثلاً لا حصراً: “جمعية روّاد البيئة في جرمانا”، والتي تعمل على مشاريع استدامة وزراعة حضرية ودعم المنتجات اليدوية النسائية.
إذن فالعدالة المناخية ليست قضية تقنية وحسب، بل قضية سياسية واستعمارية وطبقية ونسوية في آن واحد. هي حق في الهواء النظيف والماء والمسكن والمعلومة.
إذا لم تُبنى السياسات البيئية حيث تعيش النساء المهاجرات، فستظلّ هذه السياسات ناقصة.
هذه المادة جزء من بودكاست لمّة ونمّة في راديو كوزمو – ألمانيا.



