الماشية تموت بصمت في شمال وشرق سوريا

نوار الخطيب

يشكّل قطاع الثروة الحيوانية في شمال وشرق سوريا، ولا سيما في محافظة الحسكة، مثالاً واضحاً على تأثر النظم البيئية بالتغيرات المناخية والاختلالات الإدارية والاقتصادية،. فقد أدّت موجات الجفاف المتكرّرة وتدهور المراعي الطبيعية إلى ضغط بيئي كبير، انعكس سلباً على تربية الأغنام كمورد أساسي للدخل. ومع غلاء الأعلاف وتوزيع مواد علفية غير صالحة، تزايدت معاناة المربّين، ما يهدّد بفقدان التوازن البيئي والاقتصادي في المنطقة.

نتيجة لذلك، تشهد أسواق الثروة الحيوانية في مناطق شمال وشرق سوريا، وبشكل خاص محافظة الحسكة، تدهوراً غير مسبوق في الأسعار، وصل في بعض الحالات إلى انخفاض بنسبة 90% مقارنة بالموسم الماضي. هذا الانخفاض الحاد يأتي في ظل ظروف بيئية واقتصادية متشابكة، دفعت بمربي الماشية إلى حافة الإفلاس، وتهدد عشرات آلاف الأسر في المنطقة بانهيار قدرتها الشرائية.

شهدت أسعار الأعلاف في مناطق شمال وشرق سوريا، وخاصة في محافظتي الرقة والحسكة، ارتفاعاً كبيراً خلال الأشهر الماضية، نتيجةً لزيادة الإقبال عليها، ما تسبّب بركود ملحوظ في أسواق بيع المواشي، وفق ما أكده لمجلة لحلاح عدد من المربين، في الوقت الذي تُعد فيه تربية الأغنام مصدر دخل رئيسي لمعظم سكان الأرياف، حيث يعتمد كثير منهم على بيع مشتقات الحليب في الأسواق المحلية.

يقول سليمان الأحمد، وهو مربٍ للمواشي من ريف الحسكة الجنوبي: “لم تعد لدينا القدرة على الاستمرار، فأسعار الأعلاف ارتفعت بشكل جنوني، وبات تأمين كيس علف واحد يتطلب أن أبيع من قطيعي. هذا أمر غير منطقي ومؤلم”.


يضيف الأحمد: “نضطر لبيع قسم من أغنامنا كل فترة فقط لنُطعم البقية. لم يتبقَّ لنا لا رأس مال ولا إنتاج. حتى الأسواق أصبحت شبه خالية من المشترين”، ويؤكد أن غياب الرقابة على الأسواق، وعدم تدخل الجهات المعنية لضبط الأسعار أو دعم المربّين، سمح للتجار بالتحكم المطلق بسعر الأعلاف، إذ بلغ سعر كيلو الشعير نحو 2000 ليرة سورية بعد أن كان يُباع بـ600 ليرة العام الفائت، فيما ارتفع سعر كيلو النخالة إلى 1500 ليرة، بحسب تجار في أسواق المنطقة.

على الرغم من مبادرة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا لتوزيع الأعلاف خلال شهري شباط وآذار الماضيين، في محاولة منها لدعم مربي الماشية، إلا أن العديد من المربين عبّروا عن استيائهم من جودة الأعلاف المقدّمة. سليمان الأحمد كان من بين المتضررين، حيث وصف الأعلاف بأنها “غير صالحة للاستهلاك الحيواني”، وأضاف: “العلف الذي استلمناه كان فاسداً، وكانت تفوح منه رائحة العفن الكريهة، لدرجة أن الماشية رفضت أكله تماماً. حتى الحيوانات أدركت أن هذا العلف غير نافع. اضطررنا لرميه، وتكبّدنا خسائر كبيرة بسبب ذلك”.

أوضح الأحمد أن عدداً من المربين قاموا بتقديم شكاوى إلى الجهات المعنية في الإدارة الذاتية فور استلامهم للشحنة، إلا أن تلك الشكاوى لم تلقَ أي ردّ أو اهتمام: “توجهنا إلى الجهات المعنية لرفع شكوى رسمية، لكن لم يرد علينا أحد، ولم يكلّفوا أنفسهم حتى عناء إرسال لجنة للتحقيق أو المعاينة. شعرنا بأن أصواتنا لا تُسمع، وأن معاناتنا تُترك جانباً وكأنها لا تعني أحداً”.
هذا التجاهل دفع باثير من المربّين إلى فقدان الثقة بجدوى الدعم المقدّم إليهم، مطالبين بتحقيق شفاف ومحاسبة الجهات المسؤولة عن توريد الأعلاف الفاسدة، إضافةً إلى تعويض المتضررين عن الخسائر التي لحقت بهم.

يؤكد المهندس الزراعي، ثائر خلدون، أن حالة الجفاف التي سيطرت على محافظة الحسكة خلال الموسم الحالي كانت لها تداعيات سلبية واسعة، خاصة على قطاع الثروة الحيوانية، الذي يُعد أحد أعمدة الاقتصاد المحلي في المحافظة. موضحاً أن صغار المربين هم الأكثر تضرراً من هذه الظروف القاسية، نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف الجافة وقلة توفر المراعي الطبيعية التي يعتمدون عليها بشكل أساسي في تغذية مواشيهم.

خلدون أشار في حديثه لمجلة لحلاح إلى أن العديد من المربين اضطروا إلى بيع جزء من مواشيهم في الأسواق المحلية بأسعار متدنية، في محاولة للتقليل من الأعباء الاقتصادية المترتبة على تربيتها، خصوصاً مع اعتمادهم على شراء الأعلاف بأسعار مرتفعة لا تتناسب مع دخلهم المحدود، ولفت إلى أن هذه الخطوة، وإن بدت حلاً مؤقتاً، إلا أنها تُنذر بخطر تناقص أعداد الثروة الحيوانية في المنطقة، ما قد يؤدي مستقبلاً إلى خلل في التوازن الاقتصادي والاجتماعي لآلاف الأسر التي تعتمد على تربية المواشي كمصدر دخل رئيس.


بيّن خلدون أن استمرار حالة الجفاف بهذا الشكل، دون تدخل من الجهات المعنية لتقديم دعم عاجل للمربين، سواء من خلال دعم أسعار الأعلاف أو تقديم مساعدات عينية، قد يؤدي إلى انهيار قطاع الثروة الحيوانية المحلي في بعض المناطق، خاصة في الريف الجنوبي والغربي من المحافظة، حيث يعتمد السكان بشكل شبه كلي على تربية الأغنام والأبقار، كما دعا إلى وضع خطة طارئة لمواجهة آثار الجفاف، تتضمّن تعزيز مصادر المياه، وتشجيع إنشاء وحدات تصنيع أعلاف محلية بأسعار مدعومة، وإنشاء برامج تأمين زراعي بيئي، تحمي المربين من الكوارث المناخية التي باتت تتكرّر بشكل مقلق في السنوات الأخيرة.


في ظل التدهور البيئي والتقلبات المناخية وغياب التخطيط الإداري الفعّال، يقف مربو الثروة الحيوانية في شمال وشرق سوريا على حافة الانهيار. إن استمرار الأزمات دون تدخل عاجل يهدد بفقدان مورد رزق أساسي لآلاف الأسر، ويُنذر بعواقب اقتصادية واجتماعية وبيئية وخيمة. لذلك، فإن الاستجابة السريعة ووضع خطط مستدامة لدعم هذا القطاع الحيوي، لم تعد خياراً، بل ضرورة ملحة لحماية الأمن الغذائي والتوازن البيئي في المنطقة.

Scroll to Top