مقالة مترجمة – الكاتبة: فيونا هارفي – المصدر: صحيفة الغارديان – نُشرت المادة في تشرين الأول 2024
حذّر الخبراء في استعراض تاريخي من أن أكثر من نصف إنتاج الغذاء في العالم سيكون معرضاً لخطر الفشل في غضون السنوات الخمس والعشرين المقبلة مع تسارع أزمة المياه التي تجتاح الكوكب، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على الموارد المائية ووضع حدّ لتدمير النظم الإيكولوجية التي تعتمد عليها مياهنا العذبة.
يواجه نصف سكان العالم بالفعل ندرة في المياه، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد مع تفاقم أزمة المناخ، وفقًا لتقرير صادر عن اللجنة العالمية لاقتصاديات المياه (في تشرين الأول 2024). خلص التقرير إلى أن الطلب على المياه العذبة سيفوق العرض بنسبة 40% بحلول نهاية العقد الحالي، لأن أنظمة المياه في العالم تتعرض “لضغوط غير مسبوقة”.
كما وجدت اللجنة أن الحكومات والخبراء قد قللوا إلى حد كبير من كمية المياه اللازمة لحياة كريمة للناس. ففي حين أنه من 50 إلى 100 لتر في اليوم مطلوبة لصحة كل شخص ونظافته، يحتاج الناس في الواقع إلى حوالي 4000 لتر في اليوم من أجل الحصول على التغذية الكافية والحياة الكريمة. بالنسبة لمعظم المناطق، لا يمكن تحقيق هذا الحجم محلياً، لذلك يعتمد الناس على التبادل التجاري -في الأغذية والملابس والسلع الاستهلاكية- لتلبية احتياجاتهم.
تستفيد بعض البلدان أكثر من غيرها من “المياه الخضراء”، وهي رطوبة التربة الضرورية لإنتاج الغذاء، على عكس “المياه الزرقاء” من الأنهار والبحيرات. ووجد التقرير أن المياه تتحرك حول العالم في “أنهار جوية” تنقل الرطوبة من منطقة إلى أخرى.
يأتي حوالي نصف هطول الأمطار في العالم على اليابسة من النباتات السليمة في النظم الإيكولوجية التي تنقل المياه إلى الغلاف الجوي وتولد السحب التي تتحرك بعد ذلك في اتجاه الريح. الصين وروسيا هما المستفيدان الرئيسيان من أنظمة “الأنهار الجوية” هذه، في حين أن الهند والبرازيل هما المصدران الرئيسيان، حيث تدعم مساحتهما الأرضية تدفق المياه الخضراء إلى مناطق أخرى. ويتولد ما بين 40٪ و60٪ من مصدر مياه الأمطار العذبة من استخدام أراضي البلدان المجاورة.
يقول مدير معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ وأحد الرؤساء المشاركين في اللجنة، البروفيسور يوهان روكستروم: “يعتمد الاقتصاد الصيني على الإدارة المستدامة للغابات في أوكرانيا وكازاخستان ومنطقة البلطيق”. ويضيف: “يمكنك أن تطبق الشيء نفسه بالنسبة للبرازيل التي تزود الأرجنتين بالمياه العذبة. هذا الترابط يظهر فقط أن علينا أن نضع المياه العذبة في الاقتصاد العالمي كسلعة عالمية مشتركة”.
ويقول الرئيس السنغافوري والرئيس المشارك للجنة، ثارمان شانموغاراتنام، إن على الدول أن تبدأ التعاون في إدارة الموارد المائية قبل فوات الأوان. “علينا أن نفكر بشكل جذري في كيفية الحفاظ على مصادر المياه العذبة، وكيف سنستخدمها بكفاءة أكبر بكثير، وكيف سنتمكن من توفير المياه العذبة لكل مجتمع، بما في ذلك الفئات الضعيفة – وبعبارة أخرى، كيف نحافظ على المساواة [بين الأغنياء والفقراء]”، يقول شانموغاراتنام.
أنشأت هولندا اللجنة العالمية لاقتصاديات المياه في عام 2022، مستفيدةً من عمل عشرات العلماء والاقتصاديين البارزين لتكوين رؤية شاملة لحالة النظم الهيدرولوجية العالمية وكيفية إدارتها. ويعد تقريرها المكون من 194 صفحة أكبر دراسة عالمية لفحص جميع جوانب أزمة المياه واقتراح حلول لصانعي السياسات.
يقول روكستروم لصحيفة الغارديان إن النتائج كانت صارخة بشكل مدهش: “المياه هي الضحية الأولى لـ [أزمة المناخ]، فالتغيرات البيئية التي نراها الآن تتجمع على المستوى العالمي، مما يعرض استقرار أنظمة الأرض بأكملها للخطر”. ويضيف “[أزمة المناخ] تتجلى أولاً وقبل كل شيء في موجات الجفاف والفيضانات. عندما تفكر في موجات الحر والحرائق، فإن التأثيرات الصعبة حقًا تكون عن طريق الرطوبة – في حالة الحرائق، فإن [الاحترار العالمي] يجفف أولاً المناظر الطبيعية ومن ثمّ تحترق”.

كل زيادة بمقدار درجة مئوية واحدة في درجات الحرارة العالمية تضيف 7% أخرى من الرطوبة إلى الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى “زيادة قوة” الدورة الهيدرولوجية أكثر بكثير مما يحدث في ظل التغيرات الطبيعية. كما أن تدمير الطبيعة يزيد من تأجيج الأزمة، لأن قطع الغابات وتجفيف الأراضي الرطبة يعطل الدورة الهيدرولوجية التي تعتمد على النتح من الأشجار وتخزين المياه في التربة.
كذلك وجد الخبراء أن الإعانات الضارة تشوه أنظمة المياه في العالم، ويجب معالجتها كأولوية. يذهب أكثر من 700 مليار دولار أمريكي (540 مليار جنيه إسترليني) من الإعانات كل عام إلى الزراعة، ونسبة كبيرة من هذه الإعانات موجهة بشكل خاطئ، مما يشجع المزارعين على استخدام مياه أكثر مما يحتاجون إليه في الري أو في ممارسات تبديدية.
وتستفيد الصناعة أيضاً – فحوالي 80% من مياه الصرف الصحي التي تستخدمها الصناعات في جميع أنحاء العالم لا يعاد تدويرها.
تقول المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، نغوزي أوكونجو إيويالا، وهي أيضاً رئيسة مشاركة في اللجنة، إنه يجب على الدول إعادة توجيه الدعم، وإلغاء الدعم الضار مع ضمان عدم حرمان الفقراء: “يجب أن يكون لدينا سلة من أدوات السياسات التي تعمل معاً إذا أردنا تحقيق ثلاثة عناصر هي الكفاءة والإنصاف والاستدامة البيئية والعدالة. لذلك علينا أن نقرن تسعير المياه بالإعانات المناسبة”.
تضيف أوكونجو إيويالا أن الإعانات في الوقت الحالي تعود بالنفع بشكل أساسي على من هم أفضل حالاً. “فالصناعة تحصل على الكثير من الدعم، كما الأشخاص الأكثر ثراءً. لذا فإن ما نحتاج إليه هو دعم موجه بشكل أفضل. فنحن بحاجة إلى تحديد الفقراء الذين يحتاجون حقاً إلى الدعم.”
خلص التقرير إلى أنه يجب أيضاً منح البلدان النامية إمكانية الوصول إلى التمويل الذي تحتاجه لإصلاح أنظمة المياه فيها، وتوفير المياه المأمونة والصرف الصحي، ووقف تدمير البيئة الطبيعية.
تقول أستاذة الاقتصاد في كلية لندن الجامعية والرئيسة المشاركة في اللجنة، ماريانا مازوكاتو، إن القروض التي تقدمها بنوك القطاع العام إلى البلدان النامية يجب أن تكون مشروطة بإجراء إصلاحات في مجال المياه: “يمكن أن تكون هذه الإصلاحات تحسين الحفاظ على المياه وكفاءة استخدام المياه، أو الاستثمار المباشر في الصناعات كثيفة الاستهلاك للمياه. [يجب علينا أن نضمن] إعادة استثمار الأرباح في النشاط الإنتاجي مثل البحث والتطوير حول قضايا المياه.”
تضيف مازوكاتو أن مشاكل المياه لها تأثير كبير على النساء والفتيات: “إحدى عضوات اللجنة هي إيفون أكي ساوير، رئيسة بلدية فريتاون في سيراليون. وهي تقول إن معظم حالات الاغتصاب والاعتداء على النساء تحدث في الواقع عندما يذهبن لجلب المياه”.
“إن وفيات الأطفال، والتكافؤ بين الجنسين، وعبء جمع المياه، وعبء الأمن الغذائي – كلها أمور مترابطة.” تقول مازوكاتو.
خمس استنتاجات رئيسية من التقرير
العالم يعاني من أزمة مياه
يفتقر أكثر من ملياري شخص إلى إمكانية الحصول على مياه الشرب الآمنة، ويفتقر 3.6 مليار شخص -44% من سكان العالم- إلى خدمات الصرف الصحي الآمنة. يموت كل يوم ألف طفل بسبب الافتقار إلى المياه الصالحة للشرب. ومن المتوقع أن يفوق الطلب على المياه العذبة إمداداتها بنسبة 40% بحلول نهاية هذا العقد. هذه الأزمة آخذة في التفاقم – فبدون اتخاذ إجراءات، ستؤدي مشاكل المياه بحلول عام 2050 إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 8% تقريباً، وستواجه البلدان الفقيرة خسارة بنسبة 15%. يأتي أكثر من نصف إنتاج الغذاء في العالم من مناطق تعاني من اتجاهات غير مستقرة في توافر المياه.
لا توجد جهود عالمية منسقة لمعالجة هذه الأزمة
على الرغم من الترابط بين أنظمة المياه العالمية، لا توجد هياكل حوكمة عالمية للمياه، ولم تعقد الأمم المتحدة سوى مؤتمر واحد للمياه خلال الخمسين عاماً الماضية، ولم تعين مبعوثاً خاصاً للمياه إلا في الشهر الماضي (أيلول 2024).
انهيار المناخ يزيد من حدة ندرة المياه
تظهر آثار الأزمة المناخية أولاً على الأنظمة الهيدرولوجية في العالم، وفي بعض المناطق تواجه تلك الأنظمة اضطراباً شديداً أو حتى انهياراً. فالجفاف في منطقة الأمازون، والفيضانات في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، وذوبان الأنهار الجليدية في الجبال، الذي يسبب الفيضانات والجفاف في مجرى النهر، كلها أمثلة على تأثيرات الطقس المتطرف التي من المرجح أن تزداد سوءاً في المستقبل القريب. كما يؤدي إفراط الناس في استخدام المياه إلى تفاقم أزمة المناخ. على سبيل المثال، من خلال استنزاف الأراضي الخصبة والأراضي الرطبة الغنية بالكربون التي تطلق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
بشكل مصطنع المياه رخيصة بالنسبة للبعض وباهظة الثمن بالنسبة للبعض الآخر
غالبًا ما يكون للإعانات المقدمة للزراعة في جميع أنحاء العالم عواقب غير مقصودة على المياه، مما يوفر حوافز ضارة للمزارعين للإفراط في ري محاصيلهم أو استخدام المياه بشكل مسرف. كما يتم دعم استخدام الصناعات للمياه أو تجاهل تلوثها في العديد من البلدان. وفي الوقت نفسه، كثيراً ما يدفع الفقراء في البلدان النامية ثمناً باهظاً للمياه، أو لا تستطيع الوصول إلا إلى مصادر مياه ملوّثة. يجب أن يكون التسعير الواقعي للمياه الذي يزيل الدعم الضار ويحمي الفقراء أولوية بالنسبة للحكومات.
الماء سلعة مشتركة
تعتمد الحياة البشرية كلها على المياه، ولكن لا يتم الاعتراف بها كمورد لا غنى عنه. يحث واضعو التقرير على إعادة النظر في كيفية النظر إلى المياه، ليس كمورد متجدد إلى ما لا نهاية بل كسلعة عالمية مشتركة، مع ميثاق عالمي للمياه من قبل الحكومات لضمان حماية مصادر المياه وخلق “اقتصاد دائري” للمياه يعاد استخدامه وتنظيف التلوث. ويجب أن تتاح للدول النامية إمكانية الحصول على التمويل لمساعدتها على إنهاء تدمير النظم الإيكولوجية الطبيعية التي تشكل جزءاً أساسياً من الدورة الهيدرولوجية.



